تخبرنا مَعاجِمُ اللغةِ العربيةِ عن معانٍ لغويةٍ عِدة لكلمة "السياسة". فإن اقترنت بمجال المال والأعمال، كأن نقول "سياسة البنك المركزي" مثلاً فيُقصد بها خطة البنك فى بيع الأوراق المالية وشرائها، لزيادة المتداول من النقود أو نقصه، إلى آخر ذلك من أمور الاقتصاد. وتتعدد المعانى فيما هو أبعد عن هذا المعنى فنقول "ساسَ الرجل الدواب"، أى "اِهْتَمَّ بِتَرْبِيَتِهَا وَتَرْوِيضِهَا والاعْتِنَاءِ بِهَا"، إلى آخر المعانى المرتبطة بتسوس الأسنان مثلاً !!! ولكن تظل أشهر المعانى تلك التى لها علاقة بحكم الشعوب وتصريف أمور البلاد، فهى تعنى "تَوَلِّى أُمورِ البلاد، وَتَسْيِيرُ أَعْمالِها الدَّاخِلِيَّةِ والخارِجِيَّةِ وَتَدْبيرُ شُئُونِها" ، فنقول مثلاً " سَاسَ أُمورَ النَّاسِ " أى " تَدَبَّرَهَا، أو تَوَلَّى تَدْبِيرَهَا وَتصْرِيفَهَا".
والمتعاملون فى أمور السياسة جموعٌ عدة. فمنهم صحفى يكتب عنها، أو أديب فلسفى أو خبير دارس لعلومها أو مذيع على الشاشة أو ممثل يجسد قصصها أو مغن يشدو بأحداثها. ومن بين هؤلاء نجد الصادق الأمين ونجد المزيف والمخادع، وهناك من يتشدق بالمصطلحات السياسية ولا يدرك لها معنى، فهو كالحمار يحمل أسفاراً . لكن ممارسة السياسة حقا، هى لمن يحكم زمامها فى قبضته، وهم الجهة الحاكمة من رئيس للدولة وحكومة، فهؤلاء هم الذين يديرون أمور الوطن والمُطَّلِعون على أسرار كل المعطيات، ولهم القدرة على الحركة والتنفيذ.
وهناك المعارضة السياسية بأشكالها، فمنها الوطنية الهادفة لخير الوطن، التى من واجبها أن تعمل جنباً إلى جنب مع الدولة الحاكمة، وتعتبر العين التى ترى من زاويةٍ أخرى، وتساعد فى توجيه الدفة إلى خير البلاد. وهناك المعارضة السرية المختبئة تحت جُنُح الظلام، التى عادةً ما تلجأ إلى طرق غير شرعية لتعلن عن شرورها بالإرهاب والتدمير، وكل ما تسعى إليه هو كرسى السلطة ولا تمانع فى أن تُزهق أرواح أبناء الوطن لتحقق أهدافها الخبيثة.
إذن فالسياسة تشبه المنصة العالية التى لا يجلس عليها إلا من يحكم الدولة، وبالقرب من المنصة نجد مجموعة المعارضة بنوعيها، الوطنية النقية الطاهرة، والأنجاس الحالمين بالسلطة من أجل السلطة وليس من أجل الوطن. ومِن على بُعد نجد الأدباء والمثقفين والصحفيين والخبراء الذين يشاهدون ويحللون ويكتبون ويؤلفون، وكذلك من يمثلون ويغنون إلى آخر سلسلة ضخمة من التفاعل المجتمعى والثقافى والفنى مع الأمور السياسية، وكلٌ منهم مدفوع بخلفيته الثقافية والسياسية وبوطنيته إن كانت صادقة أم زائفة. وعلى مسافة أكثر بعدا، نجد أبناء الشعب من العامة والبسطاء، وهؤلاء اشتهروا بلقب "حزب الكنبة". وهم الذين يشاهدون فى صمت ويَجنون ثمار كل ما يحدث فى حياتهم اليومية ولا ينطقون. لكنهم يظهرون فقط عند أية انتخابات، فيضعون أصواتهم بصدق لمن يستحق دون مجاملة وهم قوةُ خيرٍ لا يُستهان بها وعليه فإن الوضع السياسي، متشابك، ومتداخل، ومتعدد الأطراف، ولكي نُبَسِّطَ تلك الأطراف المتعددة، فيمكن أن نجعلها فى فريقين، فريق يتميز بنقاء النفس وحب الوطن والعطاء بلا مقابل ولا فوائد شخصية أو منافع ومصالح، وهذا الفريق يتصف بما يمكن أن نسميه "الطُهر السياسي".
وعلى الجانب الآخر والنقيض نجد ذلك الفريق البغيض المتسلق على السلم السياسى والمُتَمَحِّك بجدران المنصة السياسية، إما ساعياً لكرسى السلطة بأى ثمن، ولو كان الوطن نفسه أو متدنياً لمصالح دنيوية ومنافع مادية ومناصب متشدقاً بالمصطلحات السياسية وملتفاً حول الساسة الحقيقيين لينتفع من تقربه منهم. وهؤلاء يتصفون بما يمكن أن نسميه "الفِسقْ السياسي".
ولم تكن الفترة التى تلت أحداث 25 يناير حتى انتصار 30 يونيو إلا فرصة عظيمة للشعب المصرى ليتعرف على هذين الفريقين. فلقد رأينا الساعين إلى السلطة بأى ثمن الذين باعوا الوطن كما لو كان سلعة ورأينا المتشدقين سياسياً تحت مسميات "الخبير السياسي" و"الناشط السياسي" و"مؤسس ائتلاف كذا وحركة كذا"، وكذلك رأينا خفافيش الظلام التى تقتل وتحرق وجيوبهم ملوثة بالدولارات التى انهمرت عليهم من أعداء هذا الوطن.
وقد رأينا أيضاً أبناء مصر الأطهار الذين - وفى أسوأ الظروف والأوقات - ظلوا قابضين على مبادئهم محتضنين مصرهم، ولم يتركوها فريسة للخونة والأشرار. لقد أضافت السنوات الثمانى الأخيرة للأخيار من أبناء هذا الوطن من الخبرات التى جعلتهم يميزون بسهولة ما بين فريقى "الطُهر السياسي" و"الفِسْقْ السياسي". تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر