وقوعها على الحدود الألمانية والبلجيكية أسهم فى انتشار السلاح مصدر 10 % من إرهابيى فرنسا وأكثر من 9 آلاف إرهابى ينتشرون فى المنطقة
هى مقر البرلمان الأوروبى، لكنها فى ذات الوقت المدينة التى جاء منها أطفال إلى الرقة فى العراق، وقاموا بذبح عدد من الرهائن، كما أن أحد منفذى حادث مسرح الباتكلان الشهير ولد وعاش فى هذه المدينة.
وجاء الحادث الأخير الذى وقع فى مدينة ستراسبورج الفرنسية منتصف ديسمبر الماضى فى عيد الميلاد الأكبر فى أوروبا الذى يجذب ما لا يقل عن مليون زائر ما بين نهاية السنة وبداية السنة الجديدة، ليلقى الضوء على هذه المدينة الرمزية التى تحتضن بين جنباتها البرلمان الأوروبي، ومتحف الشيكولاتة وكاتدرائية ستراسبورج الرائعة، ليصبح السؤال هو: كيف يمكن لهذه المدينة التى تشع سحرا من كل جوانبها، وأن تصبح وكرا للإرهابيين، أو أن يطلق عليها معقل الإرهاب الفرنسى الجديد؟
لم تكن تلك هى المرة الأولى التى تبرز فيها ستراسبورج على سطح العمليات الإرهابية فمنذ عشرين عاما وتحديدا عام 2000، تم إحباط عملية إرهابية كبيرة، كان من المفترض أن تتم فى كنيسة ستراسبورج الواقعة بالطبع فى أحضان تلك المدينة على حدود ألمانيا من جانب وبلجيكا من جانب آخر، ولذلك فإن عملية القبض على المخططين لها جرت بالتعاون بين الشرطة الفرنسية والألمانية، وتبين وقتها انتماؤهم إلى تنظيم «القاعدة».
ولا ننسى بالطبع أن أحد متورطى هجمات 11 سبتمبر الشهيرة، كان منحدرا من ستراسبورج التى تعد أمنيا مدينة لها باع طويل فى السياق الإرهابى برغم اعتراض سكانها بشدة على هذا التوصيف، مؤكدين أن جميع الديانات التى تعيش على أرض هذه المدينة الساحرة تحظى بالحب والاحترام، حيث إنها ربما المدينة الوحيدة التى يمكن أن نرى فيها إمام المسجد يأكل مع الحاخام اليهودى فى نفس الطبق، فكيف يمكن إذن أن توصم بأنها مدينة الإرهاب والتطرف؟
خبراء الاجتماع وخبراء الأمن يرون من وجهة نظرهم القائمة على النظريات وليس على الإنسانيات، أن وقوع هذه المدينة على حدود كل من ألمانياوبلجيكا، هو السبب فيما آلت إليه الأحوال، ذلك أن كلتا الدولتين توجد بها هذه الإشكالية، وتوجد بها أيضا عمليات تهريب واسعة للسلاح، لا تتوافر بالطبع داخل حدود فرنسا. فمجموعة الثالث عشر من نوفمبر اشترت اسلحتها من بلجيكا، والمجموعة التى قامت بهجمات شارلى إبدو بداية 2015، جاءت أسلحتها أيضا من بلجيكا. كما أن ألمانيا أيضا تعد ممرا لتهريب هذه الأسلحة، ولعل الدليل على ذلك هو الهجوم الذى حدث فى سوق عيد الميلاد فى برلين منذ سنوات، حيث تم قتل المهاجم فيما بعد فى ميلانو بإيطاليا.
ما يزيد من تعقيد الأمور، أنه فى عام 2012 قتل جيريمى لويس أحد العقول المدبرة لهجوم بقنبلة يدوية على متجر يهودى فى سارسيل خارج باريس فى مداهمة أمنية لمساكن الطلبة فى ستراسبورج. وفى عام 2016 ألقت القوى الأمنية الفرنسية القبض على سبعة أشخاص، قبل أن يقوموا بتنفيذ هجوم على سوق عيد الميلاد ما دعا مطبوعة صنداى تلجراف إلى وصف ستراسبورج، بأنها تشهد انتشارا مقلقا للتطرف الإسلامى لافتة النظر إلى أن عمدة المدينة، رولان ريس، كشفت عن أن 10 % من المسجلين فى قوائم الخطر لدى أجهزة الأمن يقيمون فى ستراسبورج، ويبلغ عددهم 2500 شخص، كما أن هناك 9 آلاف و700 متطرف، يعيشون فى المنطقة، وهذا يجعل 2500 شخص فى المدينة مصدر تهديد محتملا ما جعل الصنداى تلجراف تعتبر سترسبورج رسميا معقلا للإسلاميين المتطرفين فى فرنسا مذكرة إيانا بأنه كان من بين الانتحاريين الذين هاجموا مسرح الباتكلان فى 2015، رجل يدعى فؤاد محمد عقاد من ستراسبورج. كما أن منطقة رين السفلى يوجد بها وكر من الأشخاص المتطرفين، كما أن عدة مئات من الأفراد من المنطقة مدرجون فى قائمة المراقبة الخاصة بالإرهاب والتشدد، كما قامت المدينة بتفكيك عدة شبكات متطرفة كانت تستعد للسفر إلى سوريا. وليس أدل على ذلك ما حدث فى نوفمبر 2014، عندما أظهرت لقطات مصورة فى الرقة بسوريا طفلين يحملان أسلحة «كلاشنيكوف» يصيح أحدهما «67»، وهو رقم منطقة رين السفلى التى تشمل ستراسبورج، ويقول آخر وراء الكاميرا «كل ستراسبورج هنا».
وفى مايو الماضي، تم قتل حمزات عظيموف وهو شيشانى يبلغ من العمر 20 عاما من مقاطعة إلساو، خارج أوبرا باريس بعد أن طعن أحد المارة حتى الموت وأصاب 5 آخرين. بالطبع لا نستطيع أن نتوصل للسبب الرئيسى لتطرف ستراسبورج إن جاز التعبير فهذه المدينة، كانت تشبه حتى وقت قريب بعض ضواحى باريس. الفارق أن ستراسبورج تقع على حدود أوروبا، حيث يمكن الذهاب إلى ألمانيا وسويسرا وبرغم أنها مدينة غنية، فإنها تضم مجموعة من المتطرفين، ربما لا يتمتعون بهذا الثراء، بعكس بعض المدن الأخرى التى تعد مدنا فقيرة، أى إن سكانها كانوا من الممكن، أن يكونوا أقرب إلى التطرف، فإنها لا تحوى على متطرفين بداخلها إلا فيما ندر مثل مارسيليا والمناطق الشمالية، على سبيل المثال. معنى ذلك أن هذه الظواهر تحدث غالبا على هامش المجتمعات. ففى ستراسبورج مثلا، نجد أن المجتمع المسلم لا يتبع النموذج المهيمن فى فرنسا بل يتبعون النموذج التوافقي. وبالتالى سيكون لديهم سبب أقل للتمرد، إذ إنهم استطاعوا بكل سلاسة رفض ما يمكن تسميته بالنموذج العلمانى دون أن يعترض المجتمع على ذلك، ومع ذلك فهناك جهاديون، لأن هذه الظاهرة لا تحدث داخل المجتمعات المسلمة، بل على هامش المجتمعات فى كثير من الأحيان نظرا لارتباط الإرهاب بالظروف الخارجية. وبرغم أن الجماعة الإسلامية المسلحة استقرت فى ستراسبورج، فإنه لا يوجد دليل على تورطها فى الشبكات الجهادية للشباب هناك فى العقد الأخير، كما أنه لا توجد علاقة سببية مع الوضع الاجتماعى والاقتصادى للمدينة.
من جانب آخر يجب أن نشير إلى أن هناك فرقا كبيرا بين الجهاديين، وذلك على حد تعبير فرهاد خسروخافار المتخصص فى علم الاجتماع والخبير فى التطرف فهناك من تم تدريبهم إيديولوجيا مثل من قاموا بمعظم هجمات عام 2015 ثم هناك أولئك الذين اختاروا الجهاد لأسباب ليست بالضرورة إيديولوجية مثل حالة «شريف شيكات» الذى قام أخيراً بحادث سوق عيد الميلاد فى ستراسبورج فهو يدعى الإسلام الراديكالى الذى يضمن له الشهرة والتغطية الإعلامية حول العالم، وفى حالته فإن النقطة الوحيدة التى يمكن أن تعطى الشعور بالتطرف فى المعنى الدينى للمصطلح هو السجن وبرغم أن سلطات السجن تقول إنه كان متطرفا، فإنها خاطئة، لأن معظم مسئولى السجون يخلطون بين الأصولية الدينية والتطرف، فنموذج التطرف فى السجن غالباً ما يكون نموذجاً صامتاً أى إنه لا يظهر تطرفه.