أثار الفيلم المسىء للرسول قضية مهمة،كان لابد من التوقف أمامها، تلك القضية لم تكن وليدة العقود القليلة الماضية بل إنها تضرب فى عمق التاريخ منذ اختراع الكتابة، ولأن الكتابة وجهات نظر كان لابد أن يحدث اختلاف فى وجهات النظر يصل أحيانا إلى الصدام، فقد صلب « الحلاج » بكلمة تم تأويلها إلى تجديف دينى، وتم التمثيل ب « ابن المقفع « حيا، وأعدم « السهروردى» وكفر الكثيرون « ابن عربى» ، هذه الكتابات وغيرها أحدثت اضطرابات فى المجتمع العربى الذى تستشرى فيه الأمية، على خلفية اتهامها بالإساءة إلى الدين، وهذا ما دفعنا للتساؤل هل مصادرة مثل هذه الكتب المتهمة حل آمن لمنع قراءتها ومن ثم حماية المجتمع من فوضى تضرب فى أعماقه ؟ وهل تتم مصادرتها خوفاً من تأثر الناس بها فى مجتمعات لا تقرأ؟ «الأهرام العربى» توجهت بهذه الأسئلة للمثقفين وجاءت إجاباتهم على النحو التالى. يرى الشاعر عبد المنعم رمضان أن مصادرة الكتب أعظم دعاية لها،فكل ماهو ممنوع مثير للفضول،مشيراً إلى أن هناك ثلاثة محاور تعد سببا لرواج أى كتاب وتعد الأكثر إثارة لفضول القراء وهى الجنس والدين والسياسة . ويذكر رمضان أن الناقد الراحل رجاء النقاش كان مهتما بتلك المحاور الثلاثة، ما جعله صانع مجلات شديدة الرواج، لافتاً النظر إلى أن تاريخ الكتب ملىء بالعديد من المصادرات فمثلاً رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر والتى خرجت العديد من المظاهرات ضدها، ساعدت تلك المظاهرات على رواجها برغم ضعف قيمتها الفنية . يؤكد رمضان أيضاً أن هناك العديد من الكتب التى بسببها انقلبت مصر رأسا على عقب،منها كتاب «الإسلام وأصول الحكم «للشيخ على عبد الرازق وكتاب طه حسين فى «الشعر الجاهلى» والذى اضطر فيه حسين أن يحذف الفصل الذى تسبب فى حدوث الأزمة ويضع محله فصلين آخرين، ويغير اسم الكتاب إلى «الأدب الجاهلى»، أيضاً فى فترة الحضارة الإسلامية كان هناك كتاب للمؤلف ابن الراوندى وهو أحد الأسماء البارزة فى تاريخ الإلحاد والذى أحرقت كتبه، لكنها وصلت للناس من خلال الردود عليه، فالذين كانوا يناقشونه ويعترضون عليه كانوا يستعينون بفقرات مستلة من كتبه، وبالتالى قدم خصومه كتابه للعامة عن طريق تجميع فقرات من كتبه كانوا يعترضون عليها. ويحكى رمضان أن الكاتب خالد محمد خالد أصدر فى الأربعينيات كتابه «من هنا نبدأ» على نفقته الخاصة، و لم يبع منه نسخة واحدة،وظل الكتاب مطروحاً فى الأسواق ولم يهتم به أحد، فطلب خالد من صديقه الأزهرى أن يكتب مقالاً يتهمه فيه بأنه يهاجم الدين الإسلامى، فقام رئيس التحرير بنشر المقال فى الصفحة الأولى، وهنا صادرت الرقابة الكتاب مما ساعد على رواجه. وقال خالد محمد خالد – الكلام لرمضان - عندما رأيت كتابى راكداً لا يشتريه أحد تأملت فى حياة جورج برناردشو الذى كتب فى أول شبابه مقالات لم ينتبه إليها أحد، ما جعله يكتب مقالات أخرى يشتم فيها نفسه باسم مستعار، ما جعل اسمه يتردد على الألسنة. ويفرق رمضان بين ماهو ذو قيمة وبين ماهو رائج قائلاً : الرواج يتم بدعاوى المخالفة سواء كانت دينية أم أخلاقية،فمثلاً “ عمارة يعقوبيان “ رائجة فى العالم برغم انخفاض قيمتها . بينما يؤكد د.محمد عبد المطلب نقطة مهمة وهى الفرق بين التجاوز والتطاول،موضحاً أن التجاوز من الممكن مناقشته فى حدود، مشيراً إلى قصيدة حلمى سالم “ شرفة ليلى مراد “ تلك القصيدة التى احتج عليها البعض، أيضاً رواية “ أولاد حارتنا “ لنجيب محفوظ . يعتقد د.عبد المطلب أن من هاجم هذه الرواية لم يفهم فلسفتها،نجيب محفوظ أراد فى هذه الرواية أن يستعيد فلسفة الكون، أى إنشاء الوجود مرة أخرى،وأن الله فكرة حتمية الوجود بدونها يفسد المجتمع،هذه الرواية ننظر لها على أن بها تجاوزات . أما رواية “ وليمة لأعشاب البحر “ – حسب د . عبد المطلب - ففيها تطاولات كثيرة لافتاً النظر إلى أنها تعدت 23تطاولا بلا سياق فنى، مؤكدا وجود تجاوزات على مر التاريخ القديم والحديث، ويعلن صراحة أنه ضد المصادرة فهى تعطى للعمل قيمة أكثر مما يستحقها، رافضاً الانتهاكات التى تتخلل العمل . ويعتبر د.عبد المطلب أن مسألة المصادرة الآن أصبحت وهماً، فسهل أن نتابع أى شىء على الإنترنت،لذلك يفضل مواجهة الفكر بالفكر، لافتاً النظر إلى العديد من الأعمال التى تعرضت للمصادرة بتهمة الإساءة للإسلام كديوان الشاعر حسن طلب “آية جيم"وكتاب خالد محمد خالد “من هنا نبدأ" ومسافة فى عقل رجل لعلاء حامد وكتاب “نقد الفكر الدينى “لصادق جلال العظم و"الفتوحات المكية “لابن عربى. قرارات المصادرة ومن جهته يرى القاص سعيد الكفراوى أن قرارات المصادرة إفراز لطبيعة المجتمعات العربية، فهى تختلف من مجتمع لآخر فالمصادرة فى مجتمع ليبرالى تختلف عن المصادرة فى مجتمع محافظ يمارس حياته وفق عادات وتقاليد، موضحا أن مصادرة حرية الرأى والتعبير فى مصر أخذت أشكالا مختلفة ، ففى زمن عبد الناصر كانت عنيفة ويقابلها السجن والاعتقال وأيام السادات اتسمت بانفراجة ما، أما حقبة الفساد الماضية فكانت تحمل قدرا من التهريج . ويؤكد الكفراوى أن أشكال المصادرة نوع من الاعتداء على حق المبدع فى التعبير عن رؤيته الفنية وعن علاقته بمتغيرات الواقع ورأيه فى السلطة ، وعلى حد تعبيره “ مجتمعنا خاضع لسلطة عسكرية ودينية تستبدل حرية الرأى بالمنع والخيال الجامح فى العمل الفنى بالإظلام وإطفاء النور، وهذا لأن سلطة القمع خاضعة لطبيعة المجتمعات" . وينتقد الكفراوى التظاهرالذى يتم من قبل العامة بمجرد السماع عن كتاب يسىء للدين ويعتبره نوعا من التصرف الأحمق، ويوافقه الرأى الشاعر والأكاديمى نصار عبدالله الذى يرى أن مصادرة العمل تخلق له جماهيرية عريضة تدفع لقراءة العمل، كما لو كانوا يكرمون الكاتب مادياً ومعنوياً،مؤكداً أنه ضد فعل المصادرة لأن أى عمل إبداعى يحمل أكثر من رؤية . ويتحدث عبدالله عن رواية “ أولاد حارتنا “ قائلاً هذه الرواية عمل شامخ برغم إساءة البعض لها وفيها إشادة بكل الرسالات، فمن يقرأها بعيداً عن الجماعات المتشددة يرى فيها تعظيما للدور الذى ينهض به الدين, ويؤكد عبدالله أن جمهور الأدب محدود مقارنة بجمهور الفنون الأخرى، وله رؤية متقدمة عن عامة الناس وبالتالى المصادرة بالنسبة له نوع من العبث، مؤكداً وجود قوى معينة تحاول توظيف المشاعر الدينية لتحقيق مآرب خاصة . إثارة الشغب ويعتبر الناقد د.صلاح قنصوة أن مصادرة العمل شهرة مجانية له، منتقداً مواجهة المسائل الفكرية بالأسلحة وإثارة الشغب، أليست هذا حماقة؟! واصفاً المصادرة ب “ السيارات المفخخة" . ويتساءل : لماذا لا تأخذ الأفكار شكلها الطبيعى؟ وهو إما تنتشر أو تنتهى بالفشل وبمقاييس الفكرة نفسها ؟ مؤكداً أن كل الأعمال التى تمت مصادرتها نالت حظا عظيما من الانتشار خلال فترة التاريخ الإسلامى كله، والفكرة الجديرة استمرت، أما الرديئة فسرعان ما انتهى أمرها. وينتقد د.قنصوة طرق التعبير التى عبر بها المسلمون عن مشاعرهم تجاه الفيلم المسىء للرسول ما أثبت أننا لسنا جديرين بالتقدير ، أصبحنا نعترض على الأشياء بالأسلحة والدم والصوت العالى لا بالحكمة، وهذا ما يجعلنا مضغة فى أفواه الغرب. ويقول المترجم الكبير شوقى جلال: إن المصادرة تأتى من قبل العاجزين عن الرد، ممن ليست لديهم مناعة فكرية، موضحا أنه فى أوائل القرن العشرين كتب على أدهم “لماذا أنا ملحد ؟ “ورد عليه محمد فريد وجدى بكتاب «لماذا أنا مؤمن ؟» كان الحوار فكريا، الآن أصبحنا لا نقبل النقد.