ما بين هذا الكم الضخم من الأحداث المتتالية والمتسارعة من حولنا، ووسط هذا الضجيج الإعلامى العنيف والضاغط والمؤثر سلباً أو إيجاباً ووسائل التواصل الاجتماعي، يحاول الإنسان أن يشق طريقاً للنجاة من أسفل ركام تلك الضغوطات. فالإنسان هو معجزة إلهية فى حد ذاته ووحدة متكاملة نفسية وجسدية، وكل سلوك ينتهجه منذ الصغر له جانب عضوى وآخر نفسى لا يمكننا الفصل بينهما، فالجهاز العصبى مثلاً عند الإنسان يقوم بتنظيم الحياة العضوية والانفعالية فى منظومة ثابتة غاية فى الدقة والإبداع. فكل حركة وسكون تعتمد على ذلك المايسترو المسئول عن كل سلوك ورد فعل فسيولوجى واستجابات سوية أو مرضية. وفى هذا العصر المعقد المليء بالمخاطر والمآسى الإنسانية، وكل أنواع الحروب سواء كانت حقيقة ظاهرة على الأرض بأسلحتها المرئية المدمرة . أم نفسية كحرب على وجوده ولقمة عيشه وأهدافه وآماله وتقديره لذاته وتطلعاته لهذه الحياة. وكل دقيقة يتحول الإنسان فيها لإنسان مسحوق من كل القوى من حوله مهزوم ومضغوط، وينتج عن ذلك حالة مرضية تعبر عن ذلك الانفجار الداخلى لتلك الانفعالات الضارة التى تؤدى إلى إنهاك قدراته وطاقاته النفسية والجسدية معاً، وينعكس كل ذلك على سلوكه التكيفى للبيئة والمجتمع من حوله ويصرخ جسده بأمراض شتى كتعبير عن الصراع ومدى شدة الألم النفسى الذى يعانيه وحده. إذا كنا نريد أن نعالج مجتمعاتنا ونحتفظ بتوازننا وصحتنا النفسية والجسدية على السواء فلابد أن نعالج أنفسنا أولاً . تابعت فى الأيام القليلة الماضية عدة برامج تعرض فى فقراتها بعض المظاهر الاجتماعية والنفسية كنوع من الاستنكار، ومحاولة لتصحيح تلك السلوكيات وتعديلها ومنع انتشارها. وفى الحقيقة هالنى ما قد شاهدت من تلك المحاولات غير المدروسة علمياً بغض النظر عن من ينشرها سواء كان للإصلاح بالفعل أم لمجرد تشتيت الرأى العام وإحداث حالة من الانفعال الوجدانى الوهمى لمتابعتهم !!.. فمن أهم إستراتيجيات العلاج الجيد لأى ظاهرة واقعية، هى أولاً فهم أبعادها، خصوصا إذا كانت حالة شخصية ونتج عنها سلوك ما، فهنا نبحث الحالة ونتحمل مسئولية وهدف المعالجة ولا يكون عنصر المواجهة على الشاشات هدفها الدعاية أو القصاص أو التأديب بل الهدف الأسمى وهو العلاج وتقديم المساعدة وليس جلد الذات وتحطيم إنسان نفسياً محطم مسبقاً ومسحوق وإذا لم تبدأ فى أهم عنصر لعلاج تلك الظواهر السلوكية المضطربة ألا وهو « التعاطف « أولاً .. إذن فنحن نحيا فى مجتمع متخبط ويعبد صنم «الهو» – الهو فى علم النفس هو ذلك الجزء اللا مرئى والأساسى وينشأ عنه الأنا والأنا الأعلى ينقسم لجزئين فطرى ومكتسب، وهو المسئول عن مبدأ اللذة ولا يراعى الأخلاق ولا المنطق ولا الواقع – ويدور فى فلكه غير مبال أو عابئ بغيره من البشر .. الإنسان ليس فقط كتلة جسدية تمشى وتتحرك على الأرض . الإنسان روح ومشاعر تتحكم فى ذلك الجسد وتوجهه وقد ترفعه الإيجابية والاحتواء والتعاطف من حوله إلى عنان السماء وتحفز طاقات لخروج قدراته التى قد لا يعلم هو ذاته بوجودها بداخله بل، ويأخذ سلوكه أشكالاً مقبولة اجتماعياً ومع قليل من التفهم والصبر يتحول لقدوة صالحة أيضا. وقد تحطمه وتحوله إلى أشلاء متناثرة يصعب علينا فيما بعد احتمالية جمعها ولا يقدر أى طبيب مهما بلغت براعته فى علاجها أو حتى محاولة الإبقاء على الصالح منها. إن مهمة من يناقش أو يعالج تلك الزوايا النفسية والاجتماعية لو يعلم كم هى مهمة جليلة وخطيرة فى آن واحد فهو بمثابة عقد يوقعه مع ضيفه ليقدم له المساندة أو التحفيز على بذل كل جهده للخروج من أزمته وتصحيح مساره والنجاح بناء على مفاهيم واقعية تركز على أهدافه المناسبة له. أذكر دراسة للعالم mink matts 1973 أجريت على طلاب جامعة خارجين عن نطاق المجتمع أخلاقياً ومنحرفين، وبعد إخضاعهم للعلاج النفسى الواقعى انتقلوا من الضبط لسلوكياتهم الخارجية إلى الضبط الداخلى تلقائياً من أنفسهم، وصاحب ذلك ارتفاع ملحوظ فى معدلاتهم الدراسية وهدوء نفسى شديد مجتمعياً أيضاً .. بل وأصبحوا فيما بعد فى مراكز حساسة فى دولهم. فهل يملك الإعلام ذلك الوعى الطبي؟!!. وهل يستطيع الضمير الإعلامى أن يتحمل ذلك العبء الإنسانى ؟!. ومن يملك فى هذا العالم آلية وقوالب الحكم على المشاعر وتمييزها ؟! وهل الحكم على الآخرين من قبل زاويتكم النفسية التى قد تكون هى الأخرى فى حاجة إلى إعادة نظر صحيحة؟!. أرجوكم احتفظوا بإنسانيتكم.. أو دعونا على الأقل نظل بشرا .. إن فوضى التعامل مع المشكلات الاجتماعية والنفسية التى باتت كالعدوى الآن، قابلة للتطور داخل كل إنسان حسب أهوائه ومصالحه الخاصة.. ومحاولة انتقاء شخصيات محملة بأعباء وتراكمات نفسية وتربوية وبيئية ولديها مخزون لمفاهيم خاطئة للقيام بالحكم على الآخرين بدعوى مواجهتهم أو حتى تحت مسمى علاجهم لهو أعظم أخطائنا.. فالمشاعر الإنسانية الخاصة لا تناقش على الهواء إلا إذا ارتضى صاحبها وصرخ مستنجداً بمن حوله هنا، ومن تلك الزاوية البريئة بداخلنا فى فهم الآخرين والتماس الأعذار وتقديم المواساة بطريقة تليق بآدميتهم تمنحهم الفرصة لشرح مخزونهم من الذكريات السيئة والتعيسة التى دفعتهم إلى انتهاج ذلك السلوك الذى اعتبره البعض شاذا أو غير مقبول عرفياً وتطرح المشكلة بالوعى الهادئ دون الوقوع فى براثن حب الظهور والوجود على الساحة وإحداث ضجة لمجرد التميز حتى لو أفقدنا ذلك إنسانيتنا وتقبلنا للآخر. هل من المعقول أو المقبول أن يفقدنا هذا العالم بكل تغذيته لمشاعر الحقد والأنانية والمادية وتلك الحكمة البغيضة “أنا ومن بعدى الطوفان” حتى ولو كان مختلا من حولنا ثباتنا النفسى والعقلى !! ويدفعنا للانخراط فى تلك الدائرة المخيفة والبائسة ويسرقنا من إنسانيتنا ليلقى بنا على بقعة التوحش!! إذا كانت الأحداث السياسية غيرتنا بمبادئها وظلالها الظالمة اقتصادياً واجتماعياً، فأين هنا الإنسان العاقل كما خلقه الله سبحانه وتعالى بتفرده وتميزه ؟!. لا تجردوا البشر من إبراز مشاعر صادقة قد تكون هى السبب الحقيقى لبقائهم متماسكين فى لحظات ضعف وانكسار نفسى .. اتركوهم يشعرون بلحظات الفرح حتى ولو كانت وهمية فقد يجدون فيها تحرراً من أوقات كئيبة ومخزية وظالمة ما دامت تلك السلوكيات لم تؤذ أحدا أو تهدم إنسانا أو تخل بنظم اجتماعية أو بيئية فى دائرتها. لماذا أصبح المجتمع قاسياً ويحتكر الأحكام المغلفة ويحيطها بصناديق مغلفة معبأة مسبقاً بأفكار وعادات وتقاليد قد يكون أغلبها خاطئا. هل تستطيع كإنسان أن تتحمل تبعات هزيمة إنسان، هذا الحمل الثقيل والذنب الأخلاقى وتحيا مع ضميرك بمنتهى البساطة بعد ذلك؟!. إن الألقاب والدرجات العلمية التى يحصل عليها الإنسان ليست أبداً مقياسا صحيحا لإنسانيتنا وتفاعلنا مع من حولنا بل هى مجرد درجات سلم يرتقيه الإنسان بأناة ليحمله إلى معابد العلم والمعرفة المقدسة فى حد ذاتها كهدف أسمى.. وليست للتميز الشخصى والاستعلاء على الآخرين وإذا توجت تلك المشقة بمساعدة البشرية فى الارتقاء وفهم أنفسهم وعلاجهم وتخطى عثراتهم وآلامهم والتغلب عليها وفتح أبواب كانت مغلقة ومحجوبة عن وعيهم وتحويل واقعهم إلى واقع أفضل وناجح ولو نسبياً قابل للتطوير. إذن فنحن اجتزنا أصعب اختباراتنا الإنسانية وحصلنا على أعلى امتياز قد نحصل عليه يوماً.. هو إنقاذ إنسان.. كالوليد حين تنشئه معافى. والغريق حينما تمد يداً فقط يداً لتنقذه. من أثقل العذابات على النفس الإنسانية هى قتل المشاعر والاستهتار بهموم إنسان .. فهى قد تذهب بنا إلى حد قتل الضمير بداخلنا. وإذا مات الضمير فينا فلا تصرخ بعد ذلك من الانهزام والظلم من حولك.