• لعل تكرار سماعنا لكلمة الفساد فى الآونة الأخيرة، قد أحدث نوعاً من الانتباه المجتمعى لهذا الكم الهائل من الفساد والمفسدين.. وكعادتنا كمجتمعات عربية لا نندهش أو نتوقف عند أى ظاهرة إلا حينما تستشرى كالمرض أو الميكروب وتخترق أجسادنا وتحاول الفتك بنا.. والاستيلاء على مقدرات المغلوبين على أمرهم والمستضعفين الذين لا يملكون أى حيلة فى الرزق أو القرار أو الصمود أو التطبيع مع هؤلاء المفسدين !... ولولا وجود أجهزة مناعية من حولنا لهلكنا جميعاً. • دعونا أولاً نحلل ذلك الفيروس المنتشر منذ القدم، فهو ليس بمستحدث على طبائع النفس البشرية، ولكن إذا لم يتم التصدى له ومحاولة تخليق مصل واق لحماية مجتمعاتنا منه وإيقاف تطوره ونموه، إذن فنحن جميعاً فاسدون.
فالفساد هو أى سلوك يقوم به أى إنسان سواء كان مسئولاً فى الدولة أو على المستوى الشخصى فى إطار أسرته أو مجتمعه.. أو صحفى، إعلامى، شخصيات عامة، قيادات دينية، اجتماعية أو رياضية.. ضد المصلحة العامة ويكون هذا الفساد للاستفادة وإعلاء المصلحة الذاتية واتباع كل السلوكيات اللا أخلاقية فى الوصول لأهدافهم. هناك أركان وركائز للفساد لابد أن تتحالف لتخلق وتيسر تلك المنظومة، لتصبح تلك الدائرة المستفيدة فى حماية بعضها بعضاً، فالفاسد يعلم أين تقع مواطن الضعف الإنسانى لذلك « وبلغتهم يلعب عليها» بأحقر الطرق وأبشع الأساليب.
أدوات الفساد والإفساد كثيرة ومتنوعة، ولكن دعونا نعود لجذور تلك المعضلة من الأساس، لكى نستطيع مواجهتها حتى لو اصطدمنا بمواجهة أنفسنا فى النهاية!! «السلطة» لا شك أن للسلطة بريقا غريبا يسحر الأعين ويأسر الضمير وقد يلقى بستائره السوداء على الأخلاق!..
من يملك زمام السلطة ؟! الأب أو الأم .. فإذا كان الأب أو تلك الأم فاسدين مستغلين مكانتهما المعنوية وتأثيرهما المالى فى إعانة أبنائهما وصلاحيتهما للتحكم دون توافر قدرة الأبناء على الاعتراض أو حتى المواجهة فهنا يطعن الضمير لهؤلاء الأبناء أولى طعناته فى الصميم وبدلاً من مقاومة ذلك الفساد يتحولون تلقائيا إلى مفسدين. • لتخرج تلك الأجيال إلى الحياة العملية والمجتمعات بذلك المفهوم والسلوكيات التى تم زرعها يوماً بعد يوم فى عقولهم حتى باتت جزءا لا يتجزأ من نسيجهم الشخصى ليصبحوا متعطشين للنجاح والثروات والمناصب والنفوذ.. إلخ . ولا يعنيهم ما يتبعونه فى سبيل ذلك من عمليات خداع تلقائية ذاتية كمجرى الدم فى الجسد بشكل دورى لحماية تطلعاتهم وتبرير أفعالهم حتى لا يقعون فى فخ الضمير وصحوته فإنهم يحاولون بشتى الطرق استخدام من حولهم بالترهيب تارة وبالمال والمناصب فى أحوال كثيرة حسب تطلعات وقوة وضعف الشخصيات المحيطة بهم.
• ليثبتوا لأنفسهم أولاً أن كل إنسان مهما بلغت أخلاقه ليس بأفضل منهم ومن السهل شراؤه !! «حتى يرتاح ضميرهم «وليكملوا توحشهم الشديد للوصول إلى أعلى مراتب ما يتطلعون إليه سواء كان ذلك مالا أم منصبا أو نفوذا».
• وكما عهدنا وأثبتت لنا الوقائع والحياة أن كل مفسد يحتاج إلى حماية ولمن يزين له أعماله وفساده للعامة ويسوق له ويظل يدفن عوراته ويمارس التزييف لوعى الناس ويخدر عقولهم ويلعب على مشاعرهم حتى يصل بهم إلى مرحلة ما بين الشك فيما يشاع عن الفاسد والحقائق الملموسة أمام أعينهم وما بين إلباسه ثوب الضحية بل الفارس أمام الرأى العام !! من يملك تلك القوة ؟! الإعلام.
• وإذا ما فسد الإعلام فسد الجو العام المجتمعى بتبعاته فستجد تلقائياً بعضاً من الشخصيات المجتمعية والساسة والمثقفين بل وبعض رجال الدين يصبغون الفساد بالصبغة الدينية حتى ولو كان ذلك الفاسد ملحداً !! وتلقائيا ينتشر الفساد إلى طبقات المجتمع وعناصره ويتورط الجميع هذا بغية لقمة العيش، وذاك لضعفه وخوفه من المواجهة، وآخرون يظنون أنهم بمنأى عن ذلك المرض.. والحقيقة أن للفساد وجوها عديدة وأقنعة متبدلة حسب الأهواء والمصالح .. فالدروس الخصوصية مثلاً فساد . فالمعلم لم تعد له قيمة أو احترام أمام طلابه فهو يصادقهم بغرض استغلالهم مادياً بل يصل الأمر إلى مشاركتهم شرب السجائر أو الخمور وغش الامتحانات.. وأكثر.. نعم هذا ما يحدث الآن فى مجتمعاتنا!! وقس على ذلك الجامعات والمؤسسات وحتى أرقى المهن التى لطالما كنا نحيطها بهالة الملائكة.. وحتى لا أحبط القارئ بنماذج كثيرة.. دعونا نطرح سبل العلاج والنجاة.. حتى لا نصل للدولة الرخوة ولا نستكين لسبات عميق يقودنا فى النهاية للانهيار وجعل الجميع يأكلون ويستغلون بعضهم بعضاً.. لابد إذن من حدوث تلك المواجهة التى لطالما أنكرناها تغيير «الإنسان» ذاته. • فللإنسان ثلاث دوائر يدور فى فلكها، الأولى له فيها رأى وسلطة مثل الأب أو الأم أو المدير أو الرئيس أو من يملك القرار وله مطلق الحرية المسئولة فى إحداث أو تطويع وإصدار قرارات لاحترام القوانين والمصلحة العامة والوطنية على حد سواء وإنقاذ مجتمعاته بل دولته والارتقاء بها.
• والدائرة الثانية ليس للإنسان فيها سلطة ولكن له رأياً مؤثراً وفاعلا وقد يحدث ثقافة يتبعها سلوك إيجابى كالمفكر أو الإعلامى أو الموظف وهنا يكمن التغيير بالحوار أو القلم. • والدائرة الثالثة لا يملك الإنسان فيها رأيا ولا سلطة وهم الأشخاص الذين لا يهتمون عادة بما يحدث حولهم ووصلوا من الأنانية حد الانغلاق على أنفسهم ومصلحتهم الخاصة أو من لا يسعون إلى أى سلطة أو من المحظورين من إبداء آرائهم ولا يملكون تغييراً.
• لا بد أن تتحالف جميع الأسر مع أجهزة الدولة وكل منا من مكانه وموضعه ولا نقلل من قيمة أحد للقضاء على تلك النزعة المضطربة أخلاقياً فى مجتمعاتنا.. وحتى لا أظلم مجتمعنا وأصمه بذلك الجرم وأقع أنا أيضاً فى منزلق التفكير السطحي، يجب أن تعلم عزيزى القارئ بأن الفساد هو ظاهرة عالمية تحاط بغطاء من السرية والحماية الدولية وتستخدم فيه الكثير من الحجج والتبريرات يسوقونها إلى شعوبهم بحجة حماية وتأمين دولهم !! والأدهى أن تلك الشعوب تصدق وتأمن على أكاذيبهم وأوهامهم وقد يصل الأمر إلى حد معاداة دول وثبات تلك الانطباعات فى عقولهم !!
• إذا كان هناك فيروس يستشرى فى جسدنا فلابد أن نستنهض كل آلياتنا وعظمة حضارتنا السابقة والمعاصرة، فمصر ما زالت برغم كل عثراتها تحتضن فى كل جنباتها عظمة الضمير.
• وفى الختام أذكركم بالفيلسوف والعالم البريطانى «برتراند راسل» فى افتتاحية كتابه «فجر الضمير» (أنه يجب على نشء الجيل الحاضر أن يقرأوا هذا الكتاب الذى يبحث فى تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير فى العالم المصرى).