لم يجد الاستعمار البريطانى رغم قسوته وغطرسته طريقا لاختراق المجتمع المصرى سوى «السخرية السوداء»، ليستخدمها أداة لتنفيذ سياسته الاستعمارية الخبيثة «فرق تسد»، ففى هذه الحقبة الزمنية ما بين أواخر القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين، لم تكن دعاوى الفتنة الطائفية قائمة، ولم تكن فكرة الأقليات مطروحة من الأساس، ولا ملف ما يسمى «حقوق الإنسان» مفتوحا، كما لم يكن هناك هذا الصراع الحاد بين الطبقات، ولا توجد تفرقة عنصرية، أو إثنية، أو حتى على أساس الجنس أو اللون، فلم يجد الاستعمار البريطانى البغيض سوى سلاح النكات السلبية، والأمثال المغرضة، لزرع الفتنة بين «محافظات مصر»، ومن ثم تقسيم المصريين على أساس جغرافى، من هنا وصف الاستعمار ودعاته كرم «الشراقوة» أبناء عرابى بالغفلة والسذاجة، وطموح ووعى «المنايفة» أصحاب دنشواى، بالخبث، ومنعة وصلابة «الصعايدة» أحفاد أحمس وآباء عبد الناصر، بضيق الأفق، وحرص وحيطة «الدمايطة» أبطال معركة الفرقاطة دمياط ضد البحرية البريطانية، بالبخل، وهكذا اشتعلت حروب النكات والأمثال السلبية بين الشمال والجنوب، والوادى والدلتا، والساحل والداخل، لتحقق للاستعمار ما عجزت عنه جيوشه، وجواسيسه، وكل مخططات أتباعه فى الداخل والخارج.
المثير للأسى أن تلقفت «نخبة» فاسدة، تبعتها طبقة جاهلة، هذه «السخرية السوداء» وأشعلوا مزيدا من نار الجحود والفرقة الوطنية فيها، وبدأ البعض منهم يروجها عبر مسرح يقوم على الإسفاف، وسينما لا تمتلك الحس الوطنى، ودراما تليفزيونية لا تعرف المسئولية الاجتماعية، وصولا إلى بعض وسائل إعلامية تفتقر إلى أبسط مقومات الوعى بالمصلحة الوطنية العليا، ووقف وراء هؤلاء-ولايزال مع الأسف - طابور طويل من مجموعات وتجمعات أصحاب المصالح، ما بين كتاب وفنانين وسياسيين ورجال أعمال.. ليرسخوا مفاهيم السخرية السوداء السلبية بين الحين والآخر، لتستمرالظاهرة فى أداء دورها الهدام داخل المجتمع المصرى حتى بعد رحيل المستعمر البريطانى بعقود كثيرة، مخلفة شقاقات وثأرات وأحيانا كوارث إنسانية قد تصل إلى حد إزهاق الأرواح وإراقة الدماء، انتقاما لكرامة أهدرت، أو عصبية أهينت، أو رجولة انتقصت، أو شرف جغرافى تم المساس به، ليتحول سلام المجتمع المصرى وسلامته، واستقراره إلى مجرد قربان فى مذبح «السخرية السوداء».. ولأن نصيب أبناء الصعيد فى المقاومة كان أوفر، فقد أصبح استهدافهم بالسخرية أكبر سواء فى الكتابات أو الأفلام والمسلسلات، بل أفردت فى وسائل الإعلام بما فيها التليفزيون الرسمى فقرات خاصة فى الحفلات الغنائية، لإلقاء النكات على الصعايدة من هذا المنولوجست أو ذاك، مع أن هذا الصعيد الطيب، قد أخرج لمصر على مر الزمان عباقرة فى شتى فروع العلم والأدب وفنون الإبداع عشرات، بل مئات من الأعلام خرجوا من الصعيد. وذلك فى محاولة لكسر شوكة الصعايدة الثوار الأحرار الذين أذاقوا قوات الاحتلال المعاناة وقتلوا منهم المئات. لقد أراد الإنجليز الانتقام من الصعايدة، فأشاعوا عنهم ضيق الفكر والكسل، حتى أصبحت هذه الصورة الذهنية غير الحقيقية للمواطن الصعيدى، هى السمة السائدة التى يراها الكثيرون لأبناء جنوب الوادى، وطبقا لورقة بحثية لكاتب هذه السطور بعنوان «توظيف التراث الساخر إعلاميا» لمؤتمر التراث والأمن القومى الذى نظمه الاتحاد العربى للملكية الفكرية بمجلس الوحدة الاقتصادية أخيرا، فقد اشتهر الإنسان الصعيدى بأنه المحور الأساسى فى النكات المصرية، فعندما تجد البعض يريد إطلاق النكات على شخص يصفونه بأنه «عصبى سريع الغضب» تراهم يشبهونه بالشخص الصعيدى، وأصبح المدخل الأشهر لأى صاحب نكتة هو: «مرة واحد صعيدى..»، مثل النكتة التى تقول «إن صعيديا سافر وأرسل صورة له وهو يقف بين حمارين إلى ابن عمه وكتب له عليها معلقا: «أنا الذى فى النص»! أو الصعيدى الذى كان مسافرا وأراد أن يصل بسرعة فركب القطار وأخذ يجرى داخله. أو صعيدى سقط من فوق السلم فانكسر ظهره، فأعطاه الطبيب مرهما وقال له ادهن مكان الإصابة، فذهب الصعيدى ودهن السلم.»وهى نكات تحمل عنصرية بغيضة تنشر الفرقة والسخط لدى أبناء الجنوب. ومع الأسف لا يكتفى بعض المصريين بإطلاق النكات على الصعايدة، بل هناك الأمثال المسيئة مثل: «ما حوالين الصعايدة فايدة ولا جزارين الكلاب صوف»، وهو من تعريض بعض أهل المدن والريف بأهل الصعيد، حيث كثيرا ما يرمونهم بالجفاء وغلظ الطباع والأذى، والواقع خلاف ذلك. والمعنى أنه ليس حول أهل الصعيد فائدة ترجى منهم، تماما كما أن جزار الكلاب لا يحصل على صوف، وكذلك المثل:»كل شئ يجى من الصعيد مليح إلا رجالها والريح»ويوضح المثل إلى أى مدى يمتاز رجال الصعيد بصعوبة المراس، والعنف والقوة، وتشير الدراسة إلى أن من أدوات السخرية السوداء من أهل الصعيد أيضا الفوازير مثل: «لماذا يضع الصعيدى أمامه كوبا مملوءا بالماء وآخر فارغا؟ وتكون الإجابة عشان لو عطش يشرب، ولو لم يعطش لا يشرب.. أو لماذا يضع الصعيدى إناء مليئا بالماء تحت سريره؟ والإجابة: حتى يغرق فى النوم».. ولم تسلم شخصية الصعيدى فى السينما المصرية على مدار تاريخها من السخرية والتلاعب بملامحها بدءا من شخصية «ابن كبير الرحمية»، التى برع فى تجسيدها الفنان السيد بدير، مرورا بشخصية المغفل فى فيلم «العتبة الخضراء» لإسماعيل ياسين، ومؤكد ليس انتهاء بخلف الدهشورى فى صعيدى فى الجامعة الأمريكية.
من ناحيته يرى لواء دكتور طارق عمار، المحاضر فىالتنمية البشرية والتخطيط الإستراتيجى فى دراسة له، أن الصعايدة يحظون بنصيب الأسد من الأمثال الساخرة والنكات. إلا أن المصريين يطلقون ألسنتهم الساخرة أيضا على فئات أخرى من الشعب، مثل الدمايطة والمنايفة، منها مثلا التفسير الخبيث لبعض المصريين لكلمة منوفى:»فالميم فى هذه الكلمة تعنى: «مالوش صاحب.».والنون: ناكر للجميل.. والواو: «واكل حق غيره.».والفاء «فاكر اللى ليه، ناسى اللى عليه»..أما: الياء، فيا «ويله اللى يقع تحت إيده.». وهناك يقين راسخ لدى معظم المصريين بأن المنايفة أهل ولع وغرام بالسلطة، وهذا غير صحيح.
ويبدو أن كون «الشراقوة» أولاد عم الصعايدة، ألصق بهم هم الآخرون صفة السذاجة لانهم «عزموا القطر»، حيث يعتقد البعض أن هذا المثل يعنى اتصافهم بالجنون طبقا للمثل«شرقاوى كورك عبيط»..، إنما فى الحقيقة ارتبط هذا المثل بقصة هى فى حد ذاتها عنوان للكرم. ففى أحد أيام شهر رمضان تعطل قطار بالقرب من قرية أكياد التابعة لمركز فاقوس، وكان بالقطار مجموعة من التجار من مختلف الجنسيات، فقام أهالى الشرقية بإعداد الموائد ودعوة ركاب القطار بالكامل، وهذه الواقعة لو صحت تاريخيا لكانت دليلا على الكرم والمروءة وليس العبط أو السذاجة كما يتصور البعض. وعلى العكس من صفة الكرم التى تلتصق بمواطنى محافظة الشرقية، تجد صفة البخل تلتصق بمواطنى محافظة دمياط، ففور سماع المصريين كلمة دمياط سرعان ما يتردد المثل الشهير «تتعشى والا تنام خفيف تشرب شاى والا أنت مش كييف»، على الرغم من أن دمياط هى صاحبة أنجح منظومة اقتصادية فى مصر.
أيضا هناك سخرية سلبية من بعض المناطق الأخرى مثل بورسعيد التى وقفت صامدة أمام الاستعمار وأرهقته وعرفت ببسالتها إلا أن الاستعمار أبى إلا التشهير بها ومحاولة النيل والانتقام من أهلها فابتكر شخصية «أبو العربى» وهى نسبة لأهالى الحى العربى الذى قاوم واستبسل ضد العدو، ووصمها بالكذب والتهويل.
من جانبه يوضح عالم الاجتماع د. بهجت رشوان، وكيل المعهد العالى للخدمة الاجتماعية بسوهاج، أن لجوء القوى المعادية لمصر بداية من عهد الاحتلال البريطانى وحتى الآن إلى توظيف النكتة لزرع الفتنة بين أبناء الشعب المصرى، لأنها فى الواقع هى اسرع وسيلة لغسل دماغ الإنسان، وأكثر أنواع الأيديولوجيا الفكرية تدميرا، وقد استغلت النكتة واستخدمت فى معظم حروب العالم فى إطار الحروب النفسية والإعلامية لتدمير العدو والنيل من مبادئه وقدراته وهز ثقته.
وأضاف د. بهجت رشوان، أن السخرية عموما طبع أصيل فى المجتمع المصرى والمصريين، لكن السخرية السلبية أو ما يسمى بالسخرية السوداء تجد أرضاً خصبة أكثر فى تلك الفترات التى يعانى فيها المجتمع أزمات خانقة أو احتقاناً حاداً أو كبتاً مزمناً.
وإذا كانت النكتة موجودة كما تقول بعض الدراسات منذ عصر الفراعنة إلا أن هناك نمطا من النكت والسخرية استحدثها الاستعمار، وهى تلك التى يمكن أن نطلق عليها أن النكت العنصرية أو «الاستعلائية» لتدمير الآخر والنيل من مبادئه وقدراته وهز ثقته بنفسه . ويدلل على ذلك أنه لم تكن النكات الشعبية تطلق على الصعايدة فى بداية القرن العشرين، كما يؤكد الباحث عبد الرحمن بكر؛ كما لم تكن هناك نكات عن الصعايدة فى أفلام الأربعينيات والخمسينيات، بالعكس فمن نوادر الصحافة، أن جريدة «أبو شادوف» سخرت من عمدة صعيدى، فقتل أتباع العمدة “أبو شادوف “رئيس التحرير على إثر الموقف .
وكثيرا ما اندلعت عشرات المعارك فى مقاهى القاهرة بسبب نكتة أطلقها شاب من دون أن يحترس من أحد الصعايدة الموجودين بجواره على المقهى. وقد استخدم البعض هذا النهج الاستعمارى فى اطلاق النكات عن المنوفية فالمعروف عن أبناء المنوفية الالتزام فى العمل واحترام القواعد والقوانين، لذلك نجدهم يميلون لوظائف الجيش والمعروف عن الجيش الالتزام بالقواعد والنظام لذلك نجد من يقول عن المنايفة” شريطين على كمى ولا فدانين عند أمى “، لتبقى سخرية المصريين للصعايدة والمنايفة والدمايطة والشراقوة وغيرهم..قالب آخر من القوالب المتأثرة بالفكر الاستعمارى الذى يرمى لزرع الفتنة بين أبناء الوطن، التى يجب مواجهتها والتصدى لآثارها السلبية الخطيرة بكل السبل.