المتتبع لتاريخ العربي القديم يدرك أن «الإيلاف» كان قفزة واسعة، إذ إنه بدأ كمشروع بين طرفين، هدفه خدمة قبيلة واحدة في بلدة واحدة، ثم اتسع ليمثل شبكة تجارية واسعة ونشاطًا إنسانيًا كبيرًا تداخَل مع الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية والثقافية بشكل عميق ومؤثّر. فمجرد تتبع مختلف أوجه حياة العربي قبل الإيلاف، ومقارنتها بما بعده،يجعلنا نقف على الأثر العظيم لهذا النظام الذي يمكن أن نصفه بالمبتكر بمقاييس عصره، الذي ساعد بشبكة التواصل التى شكّلها، في انتشار ثقافة مكّة إلى كامل المنطقة.
كانت الجزيرة العربية تنقسم سياسيًا إلى ثلاثة أقسام، مملكة حِميَر اليمنية في الجنوب، تقاسي محاولات التغلغل الحبشي الذي تحول فيما بعد إلى احتلال كامل، وفي الشمال مملكتا الحيرة في العراق التابع للفُرس والغساسنة في الشام التابع لبيزنطة.
وبين الجنوب والشمال مساحة تسكنها قبائل تأنف من الخضوع لنظام ملكي أو دولة خارجية مثل قريش في مكة والأوس والخزرج بالمدينة وغيرها، أو تجمعات للأعراب يعيشون في ضيق حال مما دفع كثيرا منهم لاحتراف حياة اللصوصية وقطع الطرق على القوافل.
وبينما كان الجنوب ملتهبًا بالصراع بين الحِميريين ودولة الحبشة (إثيوبيا) الغازية لليمن كان الشمال مشتعلًا بالحرب بين الفرس والبيزنطيين سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائهم الحيرة والغساسنة.
ذلك الوضع فضلًا عن أثره السلبي على أمان القوافل التجارية، فإنه كذلك أدى لتعرض بعض المناطق لانقطاع بعض البضائع والسلع عنها نتيجة سيطرة الطرف المحارب لها على معابرها، بالذات تلك السلع القادمة من الهند ووسط آسيا.
بالتالي كان لا بد من طرف يستطيع أن «يؤلّف» كل الأطراف لضمان استمرار حركة التجارة وعدم تأثرها سلبًا بالوضع العام. ومن هنا جاءت فكرة الإيلاف في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي.
المؤسس
هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، وهذا الأخير هو مؤسس سيادة قريش على مكة، ورث الزعامة عن أبيه وجدّه. ولم يكن راضيًا عن محدودية التجارة المكية التي كانت تعتمد على مجرد أسواق محلية تقام في الأشهر الحرم، لضمان عدم تعرضها لسطو أو هجمات، التي كان يقتصر التداوُل فيها على مصنوعات داخلية للقبائل المشاركة في السوق.
كان واضحًا أن مكة ليست مدينة منتجة، ولكنها تستطيع أن تصبح «مدينة خادمة للتجارة الخارجية» لأسباب كثيرة، منها توسطها طرق التجارة بين الشمال والجنوب، كذلك لاجتماع العرب فيها في مواسم الحج وإكبارهم قريشًا باعتبارهم «أهل الله» لقيامهم بخدمة الكعبة، قدس أقداس العرب، وحجّاجها.
وخلال تعرض مكة لأزمة اقتصادية كبيرة ونقص شديد في الأقوات، قرر هاشم بن عبد مناف أن يبذل محاولة لتغيير وضع مدينته.
وبعد بضعة لقاءات مع القيصر الذي أعجب بشخصيته، اقترح هاشم على الحاكم البيزنطي أن يمنحه كتابًا يفتح أسواق الشام أمام التجارة الآتية من مكة، وأن يمنح التجّار المكيين تسهيلات في المرور والتحرك بين المدن الشامية التي يحكمها البيزنطيون، وكذلك فيما يخص المكوس (الجمارك) المفروضة عليهم، وأن يَفِد التجار من رعايا بيزنطة على أسواق العرب بتجارتهم، على أن يضمن هاشم تأمين الطريق لتلك التجارة بين مكة والشام ذهابًا وإيابًا.
«أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم»، من حديث هاشم بن عبد مناف للقيصر.
من هنا بدأت مكة تصبح مركزًا رئيسيًا لتجارة الشام في جزيرة العرب، بل صار التجار البيزنطيون يتوافدون عليها ويدفعون لسادتها ضريبة العُشر مقابل اتجارهم في أسواقها وحصولهم على حق الحماية والخدمة.
جدير بالذكر أن بيزنطة لم تنظر لهذه الاتفاقية كمكسب تجاري فحسب، بل إنها قد وظفت فتح أسواق وسط الجزيرة أمام تجارتها لصالح شبكات من الجواسيس بثتهم في تلك الأسواق لنقل أخبار مناطقها إلى السلطات والوقوف على أية تحركات من شأنها إقلاقها خاصة من جانب الفرس.
وحين تُوفيَ هاشم خلال إحدى رحلاته بمدينة غزة، استكمل باقي إخوته «بنو عبد مناف»، أي عبد شمس ونوفل والمطلب، مشروعه الكبير، وتوجه عبد شمس إلى الحبشة وقابل النجاشي مقدمًا له نفس عرض هاشم لقيصر الروم، وبالفعل حصل منه على «عهد» مشابه وفُتِحَت أسواق الحبشة أمام التجارة المكية.
وسافر نوفل إلى بلاد فارس ليعقد اتفاقًا مشابهًا مع الأكاسرة ومع ملوك الحيرة بالتبعية، مما فتح أسواق العراق أمامه، أما المطلب فقد كان نشاطه بين زعماء قبائل اليمن حيث أعطوه العهود المطلوبة، وهي خطوة عكست فهمه طبيعة الوضع المتقلب لليمن، حيث كانت السلطة المركزية آنذاك غير مستقرة في مقابل رسوخ الزعامات المحلية.
وبعد حصول أي من الإخوة الثلاثة على عهد من سلطة البلاد المجاورة، كان يدور على القبائل المسيطرة على الطرق بين هذا البلد، ومكة ويحصل من ساداتها على «حبال» مماثلة لتلك التي حصل عليها هاشم من قبل.
ومن هنا صارت قريش تخرج رحلتين كبيرتين للتجارة، واحدة في الصيف متوجهة إلى الشام والأخرى في الشتاء ووجهتها اليمن، وهما المشار إليهما في الآية القرآنية: (رحلة الشتاء والصيف)، فكانت السلع والتجارة الخارجية تجتمع في مكة ثم تخرج إلى وجهتها التالية جنوبًا أو شمالًا حسب الموسم، فضلًا عن تداولها في الأسواق القرشية المعتادة مثل عكاظ. وكانت القافلة تبلغ من 1500 إلى 2500 بعير، تجوب العراق والشام واليمن والجزيرة محملة بالسلع الداخلية لجزيرة العرب كالأصواف والثياب والأسلحة والجلود، أو تلك المستوردة من خارجها كالعطور والبخور من الهند والمنسوجات الكتانية من مصر والخمور الشامية الشهيرة، وغيرها.
وقد أدى ذلك إلى ضمان عدم انقطاع السلع بسبب الحروب والنزاعات، حيث أصبحت مكة مركزًا وسيطًا بين القوى المتحاربة، ينقل تجارة هذه لتلك وبالعكس دون تأثر بالمتغيرات السياسية.
إضافة لذلك فقد ارتفع نشاط الصرافة نظرًا لتداول عملات يمنية وفارسية وبيزنطية جراء تجارة تلك الدول في الجزيرة، فعرف المكّيون نشاط الصيارفة، وأثروا من ذلك. كما أدى أيضًا إلى تسهيل تداول التجارات القادمة من خارج الجزيرة، فتجارة مصر كانت تأتي عبر الشام، وتجارة الحبشة عبر البحر الأحمر، وتجارة الهند عبر اليمن، وهكذا، مما أدى لارتفاع نشاط الموانئ بالذات على البحر الأحمر مثل ينبع وجدة.
وارتفع في هذه الظروف نفوذ القرشيين إلى حد أنه يقال إنّ المسافر على رأس قافلة كان يكفي أن يقول إنه من “أهل الحرم” أو أن يضع قلادة بها قطعة من شجر الحرم ليُعصَم من أية مضايقات وهو في طريقه.
وأخيرًا، فإن تفاعل القبائل والعشائر من خلاله قد سهّل دخول بعضها في تحالفات جانبية لتحقيق بعض الاستفادات المشتركة.