تدشين مجلس التنسيق السعودى العراقى ولقاء رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى مع ثلاثة من الزعماء العرب، الرئيس السيسى فى القاهرة، والملك سلمان فى الرياض، والملك عبد الله فى عمان، كانت من العناوين الرئيسية التى فرضت نفسها على أحداث مطلع الأسبوع الماضى. أتت الزيارة الثلاثية فى ظل تطورات كبرى ومهمة يعيشها العراق، أبرزها القضاء على تنظيم داعش فى العراق وتحرير المناطق التى سيطر عليها منذ يونيه 2014، وعودتها إلى وضعها الطبيعى تحت رعاية وسيطرة الدولة العراقية، واستعادة مدينة كركوك لسيطرة المركز، ووقف تداعيات الاستفتاء على الانفصال غير الدستورى الذى جرى فى إقليم كردستان، مع التأكيد على حل الخلافات بين الإقليم وبغداد عبر الحوار السياسى. وفى كل من القاهرةوالرياضوعمان سمع المسئول العراقى تأكيدات عربية تكاد تكون واحدة، محورها تهنئة العراق على انتصاراته الأخيرة على عصابات الإرهاب الداعشية، والتأكيد على تمسك تلك العواصم العربية الرئيسية بوحدة العراق الإقليمية، ودعوة القوى العراقية لا سيما الأكراد لحل مشكلاتها من خلال الحوار ومبادئ الدستور، واستعداد تلك العواصم لمساعدة العراق فى إعادة إعمار ما دمرته الحروب والصراعات على أرضه، والالتزام بنهج تعاونى يفيد الجميع.
هذه التطورات تعنى أن العراق الآن يدخل طورا سياسيا وأمنيا جديدا بكل معنى الكلمة، كثير من ملامحه إيجابى، لكنه ما زال إلى خطوات أخرى فاعلة فى نطاق المصالحة الوطنية ولم الشمل بين كل مكونات الشعب العراقى واستبدال الوطنية العراقية بالحس الطائفى، وتفعيل الدستور ومبادئ المواطنة، وإعادة الإعمار ومواجهة الفساد، وتدعيم استقلالية العراق، والتخفف التدريجى من سطوة النفوذ الإيرانى الذى استشرى طوال الخمسة عشر عاما الماضية، فضلا عن الحاجة الملحة لسياسات مدروسة من أجل التخلص من آثار داعش السلبية إنسانيا ومجتمعيا فى المناطق التى تم تحريرها أخيرا، وإغلاق الثغرات وأوجه القصور التى ساعدت من قبل على تقبل بعض العراقيين لداعش بديلا عن الدولة العراقية.
هناك الكثير من النيات العراقية الطيبة والإيجابية التى عبر عنها رئيس الوزراء حيدر العبادى فى الأشهر الماضية، وعلى الرغم من الانتقادات غير المبررة التى وجهتها قوى سياسية عراقية للرجل بغية إثنائه عن الانفتاح العراقى على محيطه العربى، لكنه أخذ بالفعل خطوات عملية بشأنها، منها طرح الرؤية العراقية لمستقبل العرب، وفتح الأبواب أمام عودة علاقات العراق العربية بعيدا عن الصراعات والحروب، والسعى إلى بناء علاقات طبيعية مفيدة للجميع على أسس من الشراكة فى مواجهة التحديات المتماثلة كالإرهاب والتنمية وتدعيم التماسك الداخلى وتعزيز الحريات ودولة القانون. فى المقابل كانت هناك خطوات عربية عكست بدورها الاقتناع بأهمية استعادة العراق كدولة عربية محورية، وضرورة إنهاء حالة التردد والقطيعة التى سادت فى العقدين الماضيين، والدخول فى شراكات كبرى أمنية واقتصادية، واستعادة التواصل الطبيعى بين مجتمعات عربية أصيلة يجمعها الكثير تاريخيا وإنسانيا فضلا عن المصير المشترك. من بين هذه الخطوات العربية زيارات العديد من المسئولين المصريين والسعوديين والكويتيين الى بغداد، وتدشين لجان رئاسية مشتركة، كما هى الحال بين مصر والعراق، أو مجلس للتنسيق كما هى الحال بين الرياضوبغداد، هدفها العمل الدؤوب لتعزيز العلاقات المستقبلية فى مجالات حيوية مثل تبادل الخبرات فى مواجهة الإرهاب، والتعاون فى مجال الطاقة والنفط، وتعزيز التبادل الاقتصادى والتجارى والاستثمارات المشتركة، وتبادل الخبرات فى مجال التعليم لا سيما الجامعى، وتعزيز التعاون فى الثقافة والفنون، وحل المشكلات التى تعترض مساهمة الشركات المصرية والسعودية فى إعادة إعمار العراق.
تطور الأمور على النحو الظاهر يستند على قناعة متبادلة بأن عودة العراق إلى محيطه العربى هو خيار إستراتيجى للجميع، قد يواجه بعض العقبات، لكن لا بديل عن تخطيها بجهد وتعاون وثيق بين كل الأطراف. فالعراق قوة عربية بالأساس تعرض لمحن كثيرة فى السنوات العشرين الماضية، أبعدته عن محيطه الطبيعى، وأفسحت المجال لإيران أن تمد نفوذها إلى مفاصل الدولة والمجتمع رغم الوجود الأمريكى الكثيف بعد 2003، الذى دائما اعتبرته طهران “شيطانا أكبر”، وساعد على ذلك أن العرب انسحبوا من العراق تحت ذرائع مختلفة أهمها أن العراق كان تحت سلطة غزو خارجى، ثم بسبب سيطرة القوى الطائفية على القرار العراقى، وهى قوى لم تكن ترغب فى أن يكون للعراق أى انتماء عروبى، وعملت بجد دائم على قطع الأواصر العراقية العربية مما زاد الأمور تعقيدا، لاسيما فى ظل تمدد العصابات الإرهابية فى مناطق واسعة.
الخبرة التاريخية فى العقدين الماضيين أثبتت للجميع، فى العراق وفى الدول العربية لاسيما الجوار المباشر، أن الخروج القسرى من عباءة التاريخ الواحد والمصالح المشتركة بحكم الجغرافيا والانتماء العربى هو ضد الجميع، وأنه لا يصح إلا الصحيح، وما دام هناك احترام متبادل، وتعاون يحقق فوائد متبادلة ومتوازنة وعدم تدخل فى الشئون الداخلية، والبحث عن كل ما يعزز الأمن المشترك، فلا مهرب من تصحيح الأوضاع المعكوسة التى فُرضت بحكم تطورات استثنائية أضرت بالجميع، وبات الوضع العام الراهن مؤهلا لتخطيها وإلى الأبد. وإذا كان لإيران مصالح فى العراق، فلا يعنى ذلك أن تختفى مصالح الآخرين. التوازن مطلوب وتلك مهمة عراقية بالأساس.
لقد آثرت قوى عربية الابتعاد عن العراق بحكم التمدد الإيرانى. الآن يدرك الجميع سواء فى العراق نفسه أو فى العالم العربى ككل أن مواجهة هذا التمدد يتطلب إستراتيجية جديدة، تلتزم الشراكة وليس الانسحاب، فبدون تواجد عربى على الأرض العراقية وبدون قبول عراقى لتفعيل عروبته، سوف يخسر الجميع أكثر مما خسر بالفعل. ثمة فرصة لبناء تاريخ جديد بين العراق وأشقائه العرب.