«من شابه أباه فما ظلم»، ومن تجلّت جينات جده بمظهره ومخبره، فإن «العرق دسّاس».. كان هذا انطباعى الأول حين برز الأمير محمد بن سلمان ولى عهد السعودية، استدعت مخيلتى صورة جده الملك عبدالعزيز، حينها تصورت أننى أبالغ بالمقارنة، لكنى فوجئت أن هناك كثيرين يشاركوننى هذه الرؤية، أما تفصيل الأمر يرجع لعناصر شتى، فالمؤسس يتمتع بسمات بالغة التنوع لدرجة تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنها بعد مرور عقود اتضح تناغمها بسلاسة تجمع بين المرونة والصرامة بحنكة سياسية استثنائية، تمتلكها الشخصيات التى تسطر تاريخ الأمم، وبالطبع سيعتبرها قصار النظر مستحيلة، لكنها تدريجيًا تتحول لحقائق، فمثلاً كان الجد واسع المدارك طموحًا قوى الإرادة، لكنه أيضًا مرنٌ يتقن التوازنات الدقيقة، وكالصقور تحلق عاليًا لكنها بلحظة محسوبة بعناية تنقض على هدفها لتقتنصه، وبعدها تعاود التحليق، وهكذا ينتقل الأمير الشاب من مرحلة التأسيس لنقلة نوعية على كل الأصعدة الداخلية والخارجية وسط ظروف بالغة التعقيد والحساسية. وتجدر الإشارة لتأثير والده الذى شغل بجانب إمارة الرياض نحو نصف قرن، وصفته الصحف العربية والدولية بألقاب منها « حكيم الأسرة» فقبل صدور قرار بتعيينه وزيرا للدفاع والطيران، حرص أبناء شقيقه الأمير سلطان ولى العهد الراحل، على شكره لملازمته والدهم طوال رحلته العلاجية. وحينما نراقب السلوك السياسى لولى العهد الشاب نراه يمارسه بالفطرة ذاتها التى سكنت روح جده، وهذا الذى عبّر عنه أحمد العيسي، وزير التعليم السعودي، بمقاربته بين الأمير محمد بن سلمان، وجده المؤسس الملك عبدالعزيز، قائلاً إن هذا الشبه انتشر بشكل كبير بالأوساط النخبوية والشعبية ومواقع التواصل، وأنه لاحظ التشابه، وتحدث بشأنه خلال لقائه معه، قبل أربعة أعوام بمكتبه فى جدة، عندما كان مستشارا لوالده الملك سلمان.
وباستقراء سيرة المؤسس فقد كان فى ريعان شبابه حين خاض عدة معارك على جبهات شتى لبناء دولة مترامية الأطراف، وتتسم بخصوصية ثقافية ودينية، فخطط واتخذ أصعب القرارات وفاوض القوى العظمى، وأتقن المناورات السياسة بالصعيدين الداخلى والخارجي، وتصدى لتحدياتٍ جسام برباطة جأش، وقاد مجتمعًا مُحافظًا لتحقيق هدف تجاوز أحلام أكثر المتفائلين حينذاك، وفى المقابل فالحفيد يعمل بدأب ومهارات معاصرة، لكنها تستلهم خبرة كواليس القصور الملكية لإعادة هيكلة الدولة ورسم مستقبل الأجيال القادمة، بهمة تقتحم جوهر معضلات الحاضر داخليًا وخارجيًا بروح المكاشفة.
وتنطلق مقاربة الجد والحفيد من سمات شخصيتين قياديتين، ووعى اجتماعى وسياسى مُبكر، فبينما أحاط المؤسس البلاد بسياج وحدة وطنية تتكئ على عمق خليجى وعربى وإسلامي، أفرزت «رؤية 2030« لتجديد المرتكزات الثلاثة امتدادًا لوقائع عملية أطلقت «عاصفة الحزم» السعودية العربية فى مارس 2015 بقيادته لحماية الحدود من تهديدات إيرانية خطيرة، يمارسها بالوكالة عملاؤها وميليشياتها بالمنطقة.
الطموح الرشيد وتعيدنا للحاضر تقارير «بلومبيرج» بتناولها الخطط الطموح لولى العهد السعودى القائمة على أربعة محاوز: دعم مكانة المملكة إقليميًا ودوليًا، وبناء اقتصاد متحرر من الاعتماد على النفط وحده، واهتمامه بشريحتى الشباب والمرأة، والتوازنات الدقيقة بين النسق الدينى والاجتماعى المحافظ، وتطلع الأجيال الشابة لنمط حياة حداثية، فيسعى الأمير الشاب لمنح المرأة السعودية دورًا أكبر، لكنه وضع نصب عينيه المحافظين بالمؤسسة الدينية ذات التأثير القوى لهذا تفادى المواجهة معها حاليًا على الأقل، فعلى سبيل المثال تبددت التوقعات بأن وثيقة رؤية 2030 ستعلن خطوات لرفع الحظر على قيادة النساء للسيارات. وردا على سؤال عن هذه المسألة قال إنها مسألة اجتماعية وليست دينية وبالتالى فالقرار للمجتمع، لكن أية إصلاحات اجتماعية ستتطلب تغييرات كبيرة لنظام التعليم التقليدى فشره بتحريره تدريجيًا من سطوة الأصوليين، وبعدها التقى رموزًا دينية ليطمئنهم بأنه لن يغالى بالأمور.
وعبر وسائل التواصل يُبدى الشباب السعوديون إعجابهم بأسلوب الأمير العملى بإعلان خطط محددة بدل حديث العموميات مثل كثيرين ممن سبقوه، لكنهم يتفهمون «الكود الحضاري» للمملكة، لهذا يتفهمون أن الطريق ما زال طويلاً، خصوصا فيما يتعلق بالتقاليد الاجتماعية الصارمة المتجذرة.
وكشفت مصادر دبلوماسية عن زيارته للمعسكر الملكى بواحة روضة خريم عمه الملك الراحل عبدالله بأيامه الأخيرة، وظلت سرّية دون إفشائها سوى للمعنيين، بعدما جمعهما «تلاقح أجيال» نادر بضرورة تغيير رؤى وسياسات المملكة بشكل جذري، وطيلة عامين وبتشجيع ملكى خطط الأمير الشاب بهدوء، تعاونه منظومة كفاءات متنوعة المشارب لإعادة الهيكلة الحكومية والاقتصادية بالمملكة، ونظر بعين الاعتبار لهواجس جيله تجاه مرحلة ما بعد النفط.
وبعد وفاة الملك عبدالله، تولى شقيقه سلمان مقاليد الحكم، وسمى ابنه محمد بن سلمان ولياً لولى العهد، فلعب دورًا جوهريًا بوزارة الدفاع والاقتصاد والشأن الدولى والشباب والمرأة، لإدراكه بأن هذه مفاتيح المستقبل، وصار العالم ينظر للأمير الذى لم يتجاوز عمره 31 عاماً باعتباره قوة دفعٍ لتجديد دماء السلطة ومؤسسات الدولة، ومعالجة أمراضها بمشرط الجرّاح وليس بإنكارها أو اللجوء للمُسكنات، كعادة صُنّاع القرار بمنطقتنا.
وبرغم الحملات الصحفية الدولية الممنهجة والممولة قطريًا ضده، لكنه تجاوزها بالعمل الميدانى لينصفه تقرير بلومبرج الذى قارن سياساته الاقتصادية بتجربة ستيف جوبز، ويعمل 16 ساعة يوميًا لتحقيق أهدافه، لكن انهيار أسعار النفط أدى لعجز بميزانية المملكة بلغ نحو 200 مليار دولار، مما فرض تحديات كبيرة على الحكومة، خصوصا أن المملكة تعتمد بنسبة 90 % على عائدات النفط بموازنتها العامة، فتبلورت «رؤية 2030»، التى تجهز المناخ الاقتصادى والبيئة الاجتماعية السعودية لمرحلة ما بعد النفط.
فيما أكدت أن ولى العهد يدرك أن الدولة ستدخل مرحلة جديدة بعدما اعتمدت لنحو ستين عاماً على النفط الذى مثّل مصدر التنمية والتطور، حين كانت البلاد تفتقر لجميع مقومات الحياة فى القرن العشرين، مضيفا أن القرن الحادى والعشرين يفرض علينا بتحدياته المنافسة فى عالم لا يرحم ولا يحترم إلا القويّ المتمكن بأبنائه وإمكانياته الاقتصادية والسياسية الفاعلة.
ربيب المملكة
وفى السيرة الذاتية للأمير الشاب، فهو الابن السادس للعاهل السعودى الملك سلمان، ومواليد 31 أغسطس 1985 بالرياض، وتلقى تعليمه الأساسى بمدارس الرياض، وحصل على بكالوريوس القانون من جامعة الملك سعود، وهذا يعنى أنه خلافًا لمعظم أقرانه الأمراء تربى وتعلم وسط مواطنيه، ولم يرحل للغرب وتركت هذه المسيرة بصمتها على شخصيته فشعر بنبض الشباب بحكم عمره وزمالتهم، وبدأ مسيرته المهنية مُبكرًا وامتدت عشرة أعوام، استهلها بالأعمال الحرة، فأسس سلسلة شركات وخلال مرحلة البيزنس وصفه رجال الأعمال الذين تعاملوا معه مباشرة بأنه يتمتع بشعبيةٍ واسعة بين الشباب، يعمل بجدٍ ولديه خطة للإصلاح الاقتصادي، وهو قريب منهم ويتفهمهم« وهو أمرٌ بالغ الأهمية، لأن 70 % من السعوديين دون الثلاثين، ومعدلات البطالة بين الشباب ترتفع بسرعة، إذ يقدر البعض أنها تراوح بين ال20 وال%25.
وتفرغ للعمل الحكومي، ليبدأ مستشارًا بهيئة الخبراء بمجلس الوزراء فى 2007، ثم مستشارًا لأمير منطقة الرياض 2009، وشغل لاحقًا مناصب أخرى كرئاسة ديوان ولى العهد ووزير دولة بمجلس الوزراء. ودبلوماسيًا أجرى جولات مكوكية على مستوى العالم، متنقلا ما بين الصين واليابان وروسيا وأمريكا ودول متعددة للبحث عن تحالفات وحلول سياسية لكثير من قضايا المنطقة، أما على الصعيد العسكري، فتولى قيادة التحالف العربى باليمن بعملية «عاصفة الحزم» التى انطلقت نهاية مارس 2015، وكان يشغل حينها منصب وزير الدفاع، واستهدفت عمليات التحالف دعم الحكومة الشرعية التى يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي، وأفسد ميليشيات الحوثى بمحاولة الاستيلاء على السلطة باليمن وتحويله خنجرا فارسيًا بالخاصرة العربية، ونجحت العملية خلال عامين على انطلاقها بتحرير 85 % من الأراضى اليمنية برغم حملات التشكيك الإيرانية والقطرية لصالح الحوثيين ، وعّبر الأمير الشاب عن طموحه بتعزيز الصناعات العسكرية السعودية قائلا إن شركة الصناعات العسكرية الجديدة ستصبح قادرة على توطين نصف إجمالى الإنفاق العسكرى بحلول 2030.
ويتوقع روبرت جوردان، السفير الأمريكى السابق بالرياض، أن يسلك الأمير الشاب مزيجًا بين الحداثة والحاضنة الاجتماعية التقليدية، بالإضافة للتعامل مع القضايا الاقتصادية بحلول خارج الصندوق، معربًا عن اعتقاده بأنه مؤهلٌ للقيام بهذه المهمة التى صارت بعهدته، بالتوازى مع اهتمامه بالقضايا الإستراتيجية والأمنية، فضلاً عن مغزاه بأن انتقال السلطة بدأ يتحول بسلاسة من السير أفقيًا للاتجاه رأسيًا بتمكين «الجيل الثالث» بالعائلة، خصوصًا أن المملكة تحيطها المخاطر من كل الجهات.