تفتح وعيى عبر بوابة اليسار، فهو مدرسة معرفية رفيعة ومنهج اجتماعى يغرى بالغواية خاصة لصبى مثلى تلميذًا بالمرحلة الثانوية، وتعلمت كثيرًا من اليساريين النبلاء ومنهم خالد محيى الدين وعبد المحسن طه بدر ونبيل الهلالى وأمل دنقل ورفعت السعيد الذى كان مختلفًا عن الجميع سلوكيًا وفكريًا، بشخصيته المُركبّة متعددة المشارب، فهو منضبط كالرهبان والعسكريين، ويتنفس السياسة الواقعية بتعامله مع مختلف مكونات المجتمع بدءًا بالسلطة وصولاً لخصومه التاريخيين المتأسلمين، وواثقًا بنفسه لدرجة مُبهرة، فقد أفنى عمره وهو يتلقى الاتهامات والطعنات من الرفاق دونما اكتراث بأمراض اليسار الشائعة كالتخوين وإدمان نظريات المؤامرة والتشكيك بالنيات والاتهامات بالعمالة لأجهزة الأمن وخلافه، فالرجل يُتقن ممارسة السياسة بواقعية تتجاوز الطوباوية الطفولية، فيظل قابضًا على "شعرة معاوية" مع مختلف الأطياف، ولعل ذلك وراء حضوره الفاعل بالساحة العامة، فالسلطة تعامله بتوجس لكنها تحترمه، والليبراليون يستمعون لآرائه باهتمام احترامًا لخبراته العريضة، واطمئنانًا لتجاوزه الدوجماطيقة التى طالما شكلت حواجز ارتبطت باليسار الكلاسيكي، وحتى بعض الشخصيات الإسلاموية الناضجة تُثمن رؤيته للأوضاع السياسية والاجتماعية، وتتابع كتاباته باهتمام يفوق رفاقه وتلاميذه إدراكًا منهم بالبراجماتية المعهودة لديهم بتقديراته للمواقف، متجاوزين الخصومة العميقة معه، خاصة أنه عاش ومات صقرًا بمواقفه. بالطبع تمكن السعيد بثقته الراسخة بقدراته الاستثنائية على صياغة المواقف وبلورة المواءمات باستقطاب اليساريين القدامى الذين أنضجتهم التجارب العميقة والمريرة التى خاضوها، فاعتبروه أيقونة اليسار العضوى الملتحم بقضايا أمته، والمهارات السياسية وآليات التفاوض ببرجماتية حافظت على بقاء اليسار الذى تعرض لموجات ضارية تارة شنتها السلطات إبان عهد السادات، وأخرى جسدتها حملات التأسلم السياسى بالتكفير والإرهاب الفكري، وتارات بالانشقاقات المتعاقبة بصفوف اليسار وصلت أحيانًا لدرجة "فُحش الخصومة"، لكن السعيد استمر مؤمنًا بقناعاته، بالإضافة لقدراته الاستثنائية بحسم الخلافات بمنطق يتجاوز سلوك الطفولة المزمنة، والتطفل المُبتذل، فظل معتزًا بنفسه لأبعد الحدود، ممسكًا بالخيط الرفيع الفاصل بين التكلس والتهاون، وبالتالى أدرك عجز اليسارى بتقديم نفسه كبديل مفسرًا الأمر بتراجع قدراته على الحشد واجتذاب الشباب خاصة، ليس بسبب النزعة الدينية المتصاعدة، فلو كانت المسألة بذلك التبسيط المُخّل لشّكل انقلاب المصريين على جماعة الإخوان المسلمين قوة دفع هائلة لليسار المصرى لاجتذاب المواطنين، فاليسار المصرى بتركيبته الراهنة ليس بوسعه الصدام لعجزه عن مناطحة الأنظمة السياسية، وافتقاده لأوراق ضغط تجعله خصمًا يُشكّل خطورة على السلطة، خلافًا للإخوان وتنظيمهم وقدراتهم على الحشد والالتزام العقائدى الصارم. ولعل هذه القراءة العابرة لمسيرة "اليسارى النبيل" رسخت بوجدانى ثلاث قضايا: الانحياز للبسطاء والمهمشين، التراكم المعرفي، والخصومة الحاسمة للإسلام السياسى بمختلف تنوعاته، وأدركت معها التناقض الفكرى لبعض التيارات الراديكالية حينما ظننت اليسارى الحقيقى "خصمًا طبيعيًا" للتأسلم السياسي، وقرأت واستمتعت لانتقادات بالغة القسوة للفقيد كالزعم بأنه قضى على اليسار بعملية تهميش وتدجين ممنهجة لأكبر تنظيم حزبى يسارى بتاريخ مصر، واكتفى بقيادة تيار ممن وصفهم الشباب اليسارى المناوئ لسلوكه وأفكاره بالمنبطحين الذين دفعهم منظورهم اليسارى الوطنى الستالينى للسقوط والتفسخ التنظيمى لدرجة عرضتها للانقراض، متجاهلين وعيه بطبيعة التداعيات حال تشبثه بالدوجماطيقية، وخبراته العريضة بالعمل السرّى والعام، واستخفافهم برصيده السياسى والفكرى والحركي، وتاريحه النضالى والفواتير الباهظة التى تكبدها منذ صباه الباكر.
فى المقابل صدمنى موقف "الاشتراكيين الثوريين" الداعم لليمين الدينى بأكثر صوره انحطاطًا، وحينما ناقشتهم وجدتهم يكررون "محفوظات مدرسية" صبيانية طالما كانت تهيمن خلال سنوات المراهقة بمعناها البيولوجى والفكري، وكانت دافعًا لمراجعة قناعاتى الحالمة فى مرحلة التكوين واصطدامها بواقع اجتماعى بالغ التخلف والتعقيد، لأتوصل لصيغة ساعدنى السعيد على بلورتها بضمير مطمئن، ومفادها اختيار "يسار الوسط" مؤمنًا بالليبرالية الاجتماعية، والآن ابتسم ساخرًا حينما أستمع جعجعة "اليسار المراهق" مرددًا فى قرارة نفسي: "ليت اليسار يعود يومًا.. لأخبره بما فعل به الرفاق" وتبقى تراكم الخبرات الرهان الوحيد على نضج التجارب الإنسانية باعتبارها "ناموس الحياة" و"حكمة المشوار".