د.طارق والى: مجرد دهان للواجهات ولا توجد رؤية متكاملة راجي تامر: ما حدث تلوث بصري والإضاءة الحالية لا تتسق وروح المكان
القاهرة الخديوية، هذه الأيقونة المعمارية التي تسكن «قلب القاهرة» ويسكن التاريخ بأحداثه السياسية والوطنية والإنسانية، كل شبر من مبانيها التي لا تقدر بثمن ،بدلا من أن نحول هذه الثروة المعمارية إلى أسطورة حضارية، تفوق روعة وتأثيرا أسطورة مدينة النور باريس، تركناها نهبا لكل أنواع الفساد والإفساد، حيث تحولت مبانيها الأثرية الفريدة إلى ورش حرفية ومخازن للبضائع الرخيصة بل والمواد الخطرة، ومحال للأحذية والملابس، تغطيها لافتات النيون قبيحة الشكل والمضمون،كما تحولت شوارعها التي كانت تنافس «الشانزليزيه» في جمالها، إلى جراج ضخم مكدس بالسيارات والأتوبيسات بل والتكاتك وعربات الكارو والحنطور أحيانا، تنافسها في منظومة الفوضى والعشوائية ورش الميكانيكا وإصلاح السيارات وجحافل باعة قطع الغيار، الذين احتلوا كل شبر في هذه الشوارع والممرات وحتى مداخل العمارات، ناهيك عن التشويه المعماري الذي يجرى لحظة بعد أخرى تحت سمع وبصر الجميع، والذي أسفر عن تحويل بعض مناطق هذا الإرث المعماري النادر إلي مجرد زائدة أسمنتية أوشكت على الانفجار بكل ما فيها ومن فيها. في ظل هذا النفق العبثي، بدا هناك أمل في إصلاح الأوضاع حملته تلك اللافتة الضخمة التي تشير إلي مشروع «تطوير القاهرة الخديوية» الذي يقوم به كل من جهاز التنسيق الحضاري ومحافظة القاهرة.. وفيما تحتفل القاهرة بمرور مائة وخمسين عاما على إنشاء «القاهرة الخديوية» سارعنا بالمضي خلف هذا الضوء لنبحث ما إذا كان «المشروع» يليق بقيمة المنطقة وقادرا على تطويرها بصورة حقيقية وشاملة ،أم مجرد مشروع آخر يتعامل مع المشكلة بالقطعة ، ويعالج الشكل دون المضمون ، ويكتفي بتجميل الوجه، تاركا الجسد مكدسا بالقبح والتشوهات والمشكلات؟ الباحث الأنثروبولجي فؤاد مرسى، الذي أعد دراسة وثائقية عن الذاكرة المعمارية للقاهرة الخديوية. إضافة إلى قاموس فوتوغرافي - تاريخي عن أماكن القاهرة الخديوية القديمة، يرى أن أي تطوير للقاهرة الخديوية دون التعرض لمشاكلها الأساسية، هو كلام في الهواء ومن تلك المشاكل تكدس المصالح الحكومية والوزارات والهيئات في هذه المنطقة التي يفد إليها يوميا 6 ملايين زائر ،طبقا لبعض الإحصاءات، و هو ما يؤثر بالسلب على سلامة المباني التاريخية ونسقها المعماري وتكويناتها الجمالية النادرة التي أصابتها الشيخوخة. ويرى فؤاد مرسى أن علاج منطقة القاهرة الخديوية، لا يتم فقط بمجرد دهان واجهات العمارات، لكن الأهم أن تغلق تماما أمام كل وسائل التدمير مثل تحويلها إلي مناطق مغلقة للمشاة فقط، خصوصا أنها ذات مساحة صغيرة، مع سرعة نقل المصالح الحكومية كأولوية قصوى فور الانتهاء من الحي الحكومي بالعاصمة الإدارية الجديدة.. ومن ثم تحويل منطقة القاهرة الخديوية بالكامل إلي محمية أثرية أو متحف عمراني مفتوح واستثمارها في إنتاج نماذج معمارية مماثلة سواء في أطراف القاهرة أم المدن الجديدة لإنقاذ الإنسان المصري من طوفان القبح والتشويه البصري والاغتراب النفسي الذي يحيط به من كل جانب و الذي حوله إلي كائن عدواني مشوه نفسيا .
حرث في البحر ويشير المعماري مصطفى القبيصي إلي أن مشروع تخرجه في كلية الفنون الجميلة قسم عمارة قبل ثلاثين عاما، كان عن تطوير القاهرة الخديوية وهى فكرة مثالية يجب تهيئة المناخ المناسب لنجاحها على أرض الواقع، بدلا من أن تكون مجرد فكرة فوقية هبطت بالباراشوت على بيئة عشوائية، كما هي الحال الآن، موضحا أن نجاح مشروع تطوير القاهرة الخديوية يجب أن يكون متكاملا تشترك فيه مختلف الوزارات والأجهزة التنفيذية والبحثية المعنية بهذا التطوير. وأولها التخطيط الشامل للمنطقة المراد تطويرها شاملا النشاط الاقتصادي والاجتماعي والمروري، فعن أي تطوير نتحدث في ظل شوارع مكدسة حتى الحافة بباعة قطع غيار السيارات على الأرصفة أو بشارع مثل التوفيقية لا تستطيع مجرد المرور فيه على الأقدام، أيضا كان لابد أن يتم التطوير على خلفية ثقافية وتاريخية وجمالية، تقوم على نشر ثقافة مجتمعية واسعة تهيىء الناس لقبوله، فمنطقة وسط القاهرة يقتضى تطويرها منع مرور السيارات في بعض المناطق، لأن ذلك حل لا بديل عنه، لأنه ليس من المنطقي أن يفكر سائقو السيارات في الشوارع المختنقة بالمرور الكثيف في تأمل العمارات والواجهات ذات الطابع الجمالي، وكذلك المشاة الذين يتركز كل همهم في كيفية النجاة بأنفسهم من هجوم السيارات أو العبور من رصيف إلى آخر بدون أي فرصة أمامهم للتطلع إلى أشكال المباني وجمالها المعماري، مما يهدد أى تنسيق أو تطوير أو تجميل بعد إتمامه فهل تمت دراسة هذا الأمر؟ وإذا كان هذا قد حدث ، هل تمت تهيئة سكان المنطقة والمترددين عليها والجهات المعنية له؟ ويواصل القبيصي: من ناحية أخرى فإن إعادة الجمال إلى مبنى تاريخي في منطقة مكتظة بالأنشطة التجارية والمكاتب المهنية لابد أن تصطدم بالإعلانات واللافتات التي تغطى واجهته بالكامل، فإذا لم توجد قوانين صارمة وآلية حاسمة لتنفيذها لمنع اللافتات من تشويه واجهات المباني بأسماء الأطباء والمحامين والشركات والمكاتب التجارية وغيرها، وكذلك لمنع الإعلانات التي باتت مصدر دخل كبير لأصحاب المباني، فإن ما نقوم به من تجميل ليس إلا حرثا في البحر وإهدارا للمال العام. مركز ثابت من جانبه يعلق استشاري العمارة الإنشائية والديكور الفنان طه القرني على المشروع قائلا:”لكل بلد مركز حضاري ثابت لكن مع الأسف لا يوجد في مصر مثل هذا المركز، فنحن لا نحترم الطرز المعمارية لا في القاهرة الخديوية ولا غيرها، وفى كل البلاد التي تحترم حضارتها وتاريخها تم إخضاع الحالة الاقتصادية والتجارية بل والاجتماعية لشكل المباني، وليس العكس كما يحث عندنا، مما أسفر عن هذه الحالة غير المعقولة من الفوضى والعشوائية وترك المهمة لجهاز التنسيق الحضاري ليتحمل العبء وحده، وهو ما سيسفر في أحسن الحالات عن مجرد تجميل منفصل عن متطلبات الحضارة المعمارية. ويتساءل القرنى: أين دور جهاز التنسيق الحضاري في ظل فوضى المنشآت والمباني المشوهة للسياق الحضاري؟ حيث نجد مثلا في شارع قصر النيل وهو أحد أهم شوارع القاهرة الخديوية العديد من المباني الشاذة معماريا، مع عدم وجود واجهات في معظم عمارات الشارع تحترم الطرز المعمارية به. وهذا الشارع الذي كان يشبه معماريا شارع الشانزليزيه في باريس، لو قارنا بينهما الآن سنجد الفارق شاسعا ومحزنا بين مدى الاحترام المعماري هناك والصرامة والعقوبات القاسية للخارجين على القوانين المعمارية والتي تصل إلي السجن المشدد لمخالفات الواجهات في باريس، مقابل الاستخفاف الشديد بالمعمار هنا. ويوضح القرني رؤيته لكيفية التطوير قائلا: من المفترض أن يضم جهاز التنسيق الحضاري مجموعة خبراء عليهم أن يعودوا إلى صور وأشكال الشوارع والمنشآت والمباني في حقبة القاهرة الخديوية للمقارنة بينها وبين الشوارع والمباني الآن. وبالتالي يمكن إعادة الوضع إلي الحالة المعمارية التاريخية ولو تحقق ذلك لكان نصرا حضاريا كبيرا فوسط القاهرة ليس مجرد سينمات ومحال ملابس وأحذية فأقل مبنى بها هو قيمة تاريخية فى حد ذاته لاتقدر بمليارات ،ويجب أن تكون الواجهة مرتبطة بالمبنى وبالشارع وبالميدان وبالحالة الحضارية حتى يمكننا استثمارها في السياحة المعمارية. وينبه القرني إلى أن معظم العمارات و المنشآت ذات القيمة التاريخية لم يتم حصرها حتى الآن برغم تجاوزها 150 عاما، منها عمارات عديدة في شارعي طلعت حرب وقصر النيل ،مقترحا أن يتم استبدال الأسفلت فى شوارع القاهرة الخديوية بالبازلت مكان البردورات، وأن تتكامل واجهات أعمال ممثلة في الجزء الرأسي مع البعد الأفقى فى هذه الشوارع ذات القيمة الحضارية المهمة. ويدعو الدكتور سامر سعيد الأستاذ بكلية الفنون التطبيقية القائمين على التطوير، مراعاة أن يكون لكل شارع في القاهرة الخديوية لون مميز يتفق مع شخصيته المعمارية، وأن يصدر البرلمان قانون صيانة المنشآت الذي طال انتظاره لإنقاذ الكنوز المعمارية في هذه المنطقة الحيوية مع عمل دراسة شاملة لحصر الواقع الحالي للقاهرة الخديوية وحالة كل عمارة وعدد أدوارها والإشغالات حولها ونوعية الورش بها ثم يتم تجميع هذه الدراسات ووضعها أمام لجان متخصصة و نزيهة، بعيدا عن لعبة المصالح الخاصة لوضع إستراتيجية شاملة لتطور المنطقة بالكامل وليس مجرد الاكتفاء بمجرد التجميل السطحي الذي يحدث الآن.
البعد الاقتصادي وفى تعليقه حول البعد الاقتصادي لمشروع تطوير القاهرة الخديوية، يقول الدكتور أحمد أبو النور أستاذ اقتصاديات الثروات المتجددة، وخبير الإنمائيات بالأمم المتحدة :”التجميل في غير مكانه قبح والإنفاق في غير محله سرف” ، مضيفا: أن مجتمعنا يعانى “أزمة إدارة” بامتياز و الدليل على أن “المشرط ليس دائما بيد الجراح” هو ما حدث في واقعة “جراج رمسيس” الذي تمت إزالته بعد بنائه . لذا كان يجب أن نخطط أولا في أي مشروع حضاري يتعلق بالقاهرة الخديوية كيف نضمن أمنها وسلامتها معماريا واستمرارها كمصدر متجدد للثروة لا ينضب، في ظل وجود آلاف المخازن التي تنتشر بلا ضوابط أو حتى أدنى معايير السلامة المهنية، خصوصا أن معظمها لمواد كيماوية سريعة الاشتعال وإطارات سيارات وورش ملابس ومطاعم.. ومن ملاحظاتي لعمليات التطوير، فإنني لا أعتقد أن مشروع تطوير القاهرة الخديوية تضمن ضوابط و معايير الأمن والسلامة الدولية المتعارف عليها في التعامل مع ثروات معمارية فوق التقييم.
قوانين رادعة من جانبه يقول المستشار القانوني خالد حمدان أحد سكان القاهرة الخديوية: القاهرة الخديوية تمثل فترة مهمة من تاريخ العمارة والإبداع فى مصر، وهو ما يقتضى أن تكون هناك تشريعات قانونية تحظر بيع أو هدم المباني أوتشويه المباني ذات الصفة التاريخية والجمالية أو ذات الموقع والخصوصية، بالإعلانات واللافتات التي تغطى الواجهات الأثرية وتشوه جمالها، أو استخدامها في أنشطة خطرة تهدد سلامتها، باعتبار هذه المباني المعمارية الأثرية تمثل جزءا من الذاكرة الوطنية.. وبهذا يحقق التطوير الهدف منه على المدى الطويل، حتى لانفاجأ كالعادة بزحف عوامل الهدم والقبح مرة ، وربما مرات أخرى في ظل غياب قوانين رادعة تحمى كنوزنا المعمارية وفى القلب منها القاهرة الخديوية.
أين الرؤية؟ من جانبه يري د. طارق والى مؤسس مركز طارق للعمارة والتراث، أن ما حدث في القاهرة التاريخية لا يسمى تطويرا بأي شكل من الأشكال، فالصيانة والدهانات للواجهات تمت من الخارج فقط، ولم تتم صيانة للمباني بالكامل فليس هناك رؤية لمشروع متكامل. ومصطلح القاهرة الخديوية تعبير خاطىء، فمن الأفضل أن يطلق عليها الإسماعيلية “نسبة إلى إسماعيل” أو منطقة وسط البلد ،تلك المنطقة التى ينبغى إعادة الرونق لها بما يتسق وعراقتها ومكانتها التاريخية والثقافية، حين كانت مقرا للعديد من الصالونات الثقافية التي كان يرتادها كبار الكتاب أمثال: نجيب محفوظ وطه حسين ويوسف السباعي ويوسف إدريس. والذين قاموا وغيرهم بدعم الحركة الثقافية من خلال الندوات التي كانت مقاهي وسط البلد مقرا لها مثل “مقهى ريش”. كما كانت المسارح والسينمات بوسط البلد في فترة الأربعينيات والخمسينيات سببا من أسباب الارتقاء بالحركة الفنية. كما اشتهرت قاهرة إسماعيل بتأثيرها ودورها في الاقتصاد من خلال انتشار عدد من البنوك والشركات والمكاتب والعيادات التي تخدم الطبقات المتوسطة. ويري المهندس المعمارى راجي تامر، أن ما حدث في وسط البلد تلوث بصري وما فعلته المحافظة فقط هو عمل دهانات لواجهات العمارت بالشوارع الرئيسية، فهناك من قاموا ببناء أدوار مخالفة بهذه العمارات القيمة على مدار سنوات وتشويه أسطحها، ولم يتم إزالتها أو إجراء عمل يتناسق ويتواءم مع البيئة المحيطة بها، وما حدث من انتشار لأعمدة الإنارة ببعض الشوارع التجارية هو زيادة على الحد المبالغ به، ففي المناطق التاريخية الشبيهة فى مختلف عواصم العالم، تتسم الإضاءة بأنها خافتة ومناسبة للجو العام ولروح المكان.