د. وحيد إمام: زيادة موجات الحرارة بنسبة 20% خلال ال10 سنوات الماضية والصيد الجائر وراء تغيير البيئة البحرية هجرة أو موت السلاحف التى تتغذى على القناديل أدى إلى تكاثرها د. أحمد حجازى: قناة السويس بريئة من تهمة جذب القناديل إلى المنطقة د. أحمد غلاب: مشكلة عالمية تتفاقم فى أسترالياوأمريكا وستختفى من مصر مع نهاية يوليو
ليس الظهور الكثيف لقناديل البحر فى السواحل المصرية أخيرا، وما سبقها من ظهور بعض أسماك القرش، سوى عرض لمرض أكبر يتجسد فى خلل بالبيئة البحرية المصرية نتيجة طبيعية للتغيرات المناخية من جانب وللممارسات البشرية الخاطئة من جانب آخر. فعلى الرغم من أن انبعاثات مصر من غازات الاحتباس الحرارى المسببة للتغيرات المناخية لا تمثل سوى 0.57% من إجمإلى انبعاثات العالم. فإن مصر تعتبر من أكثر دول العالم تضررا من آثار التغيرات المناخية، وهو ما أكدته وزيرة خارجية بريطانيا "مارجريت بيكيت" فى تصريح لها أوائل عام 2007، حيث قالت إن النيل سيفقد 80% من تدفقه، وأن أجزاء من الدلتا ستغرق فى مياه البحر، كما أكدت تقارير المنظمات الدولية أن التدهور المناخى قد يؤدى إلى غرق أكثر من ثلث دلتا النيل نتيجة ذوبان جليد القطبين الشمالى والجنوبى ونحر مياه البحر الأبيض المتوسط، وفى حالة حدوث هذا السيناريو الكارثى سيتعين على مصر تهجير عدد يتراوح ما بين 15 و20 مليون نسمة. كما سيتعين عليها مواجهة تبعات فقد أكثر من 15% من أخصب أراضيها ومنتجاتها الزراعية.
أما البيئة البحرية المصرية فهى تواجه خطرا حقيقيا يتمثل فى موت الشعاب المرجانية النادرة، وهجرة أسماك القرش إلى البحار المصرية وتغيير طبيعة البحرين الأحمر والمتوسط. كما أكدت الدراسات أن هناك نحو 1500 نوع من الأحياء البحرية معرضة للتهديد فى البحر المتوسط فقط، ثم تأتى ظاهرة قناديل البحر التى انتشرت على السواحل المصرية فى الأيام القليلة الماضية، كجزء آخر من الخلل الخطير الموجود فى البيئة البحرية المصرية.
من خلال هذا التحقيق نفتح ملف خلل وتدمير البيئة البحرية فى مصر المسكوت عنه لنواجه أنفسنا، ولتستيقظ الدولة لتضع الخطط البديلة لمكافحة هذا التغير أو التكيف معه، والحد من الخطر الحالى والمستقبلى على البيئة والكائنات البحرية فى مصر .
الدكتور وحيد إمام، أستاذ البيئة بكلية العلوم بجامعة عين شمس، يؤكد أن التغييرات المناخية أثرت على البيئة البحرية فى كل العالم وليس مصر فقط، حيث ارتفعت درجة حرارة المياه والجو، ونجحت بعض الكائنات البحرية فى التأقلم مع ارتفاع درجة حرارة الماء، بينما لجأ البعض الآخر إلى الهجرة من موطنه إلى بيئة أخرى أقل حرارة لكن فى الأغلب لا ينجح فيموت، مضيفا أن البيئة سواء بحرية أو برية تتحمل موجات البرد والسقيع الموسمية، وهذا أمر من خلق الرحمن، لكن مع ازدياد فترات ومدد تلك الموجات وتكرارها كثيرا، يحدث خلل فى الحياة الطبيعية، وهو أمر يعجز علماء البيئة عن التصدى له خصوصا أن الموجات الحرارة ازدادت بنسبة 20 % خلال ال 10 سنوات الماضية، وهو السبب الرئيسى للخلل فى الحياة البحرية. وقد نتج عن تلك التغيرات المناخية انبعاث غازات عديدة منها: غاز ثانى أكسيد الكربون، والأكاسيد النتروجينية، والأكاسيد الكبريتية، وغاز الميثان، وتلك الأنواع من الغازات تحاول تصريف نفسها أولا فى الغابات ووسط الأشجار. ثم تصرف الجزء الآخر داخل المحيطات والبحار، مما يغير درجة حموضة المياه ويؤثر بالسلب على أشكال الحياة البحرية.
ومن جانب آخر أصيبت البيئة البحرية بالإجهاد بفعل الصيد الجائر وممارسات الصيد غير السليمة، واستغلال السواحل، والترسيب، والمصادر البرية للتلوث، والتلوث البحرى، وهو ما سيؤدى إلى الاختفاء شبه المحتم للشعاب المرجانية فيما يسمى عملية (الابيضاض)، حيث تبيض الشعاب وتفقد ألوانها التى تعبر عن الحياة النابضة بداخلها. بالإضافة إلى أن الأسماك التى تعيش داخل الشعاب المرجانية وحولها ستموت أو تهرب إلى منطقة وشعاب أخرى .
أما عن ظاهرة قناديل البحر فيقول د. إمام: إن ظهورها نتيجة طبيعية للتغيرات فى البيئة البحرية وتغيير حموضة المياه التى تؤدى إلى هجرة أو موت بعض السلاحف والقروش التى تتغذى على القناديل، أو ندرة وجود تلك السلاحف والقروش بسبب الصيد الجائر، مما أدى إلى تكاثر تلك القناديل التى لم تجد فوقها فى الهرم الغذائى من يتغذى عليها، موضحا أن هناك سببًا آخر لانتشار قناديل البحر على الشواطئ المصرية وهو ازدياد تلوث الشواطئ بالمواد العضوية التى تعتبر الغذاء الأهم لتلك الأنواع من القناديل .
ويؤكد د. إمام أن وجود القناديل فى السواحل المصرية ليس بجديد ويمكن مواجهته بوضع حواجز من الشبكات على الشواطئ لتمنع تسللها، بالإضافة إلى حماية الشواطئ من التلوث خصوصا العضوى منها، فمع ارتفاع موجة الحر تتحلل تلك المواد سريعا داخل المياه وهى تعد الغذاء المثالى للقناديل فتتكاثر وتنمو سريعا.
وبصفة عامة ينبغى كى نواجه خلل البيئة البحرية فى مصر أن نترك الطبيعة لنفسها، فهى الأقدر على إعادة بناء نفسها وطرد ما هو غريب عليها، فالتدخل السافر والمتزايد للإنسان يعقد الأمر، والأهم الالتزام بالاتفاقيات الدولية الخاصة بتغييرات المناخ سواء فى مصر أو باقى العالم، ففى أستراليا توجد مشكلة القناديل بشكل أخطر بكثير من مصر، بل إن هناك نوعا قاتلا إذا لسع إنسان مات على الفور، وهو أمر معروف هناك ولا يزال الناس هناك تستمتع بالسباحة فى المحيط، لأن لديهم وعى وثقافة كيفية التعامل مع الكائنات البحرية بشكل عام.
إن مشكلة التغييرات المناخية زادت وستزداد خصوصا مع انسحاب رئيس أمريكا دونالد ترامب من اتفاقيات تغير المناخ برغم أن بلاده من أكبر الدول المسببة لهذه الأزمة على مستوى العالم.
ادعاءات باطلة
من ناحيته ينفى الدكتور أحمد حجازى، أمين عام مجلس البيئة بأكاديمية البحث العلمى، ما روجت له عالمة إسرائيلية ادعت أن مشكلة تزايد القناديل فى المنطقة جاءت بسبب حفر قناة السويس ثم حفر التفريعة الجديدة، وقد قام العلماء المصريون بالرد عليها بأسانيد علمية تثبت أن ظاهرة قناديل البحر ظاهرة عادية وطبيعية وأقدم من حفر قناة السويس نفسها. ويوضح أستاذ علوم البيئة أن السفن التى تعبر قناة السويس آتية من أمريكا الوسطى والجنوبية تضطر إلى ملء سفنها الخاوية بالمياه لعمل ما يسمى (مياه توازن السفن)، مما يتيح لأنواع مختلفة من الكائنات البحرية أن تعلق بتلك السفن، منها ما يموت، ومنها من يتكيف مع البيئة الجديدة مثل القناديل وأنواع من القروش والأسماك الغريبة على البيئة البحرية المصرية.
ويشير د. حجازى إلى أن من أسباب زيادة قناديل البحر إلقاء القمامة على الشواطئ ومنها الأكياس البلاستيكية والتى تعتقد السلاحف أنها قناديل فتأكلها مما يؤدى لموتها، مشيرا أيضا إلى أن ظهور أنواع من قروش البحر فى بيئة غير بيئتها مثلما حدث العام الماضى مما تسبب فى ترويع السياح والمصيفين فى مناطق البحر الأحمر، هو أيضا نتاج خلل البيئة البحرية الناتج عن التغييرات المناخية، وأيضا بسبب استخدام بعض الصيادين طعما حيوانيا ميتا، مما أدى إلى جذب أنواع غريبة عن بيئتنا البحرية، استطاعت أن تتكيف مع بيئتها الجديدة وأن تتكاثر فيها .
ظاهرة طبيعية
أما الدكتور أحمد غلاب، مدير عام محميات البحر الأحمر فيقول: إن ظاهرة وجود القناديل فى الشواطئ المصرية، هو أمر يحدث كل عام فى ذلك الوقت من السنة، ومع ازدياد موجة الحرارة التى تزيد من معدلات تكاثرها . ولا يوجد أنواع سامة أو خطيرة من تلك القناديل سواء فى البحرين الأحمر أو المتوسط، مؤكدا أن القناديل ستختفى مع نهاية شهر يوليو.
وأضاف د. غلاب أن مشكلة قناديل البحر ليست مصرية بل هى مشكلة عالمية وتتفاقم فى دول كثيرة مثل أمريكاوأستراليا، فعلى سبيل المثال عام 2006 حدث اجتياح لأعداد كبيرة منها للشواطئ الأمريكية، مما أدى لمشاكل فى محطات الطاقة والمزارع السمكية.
وأوضح أن فرق الرصد فى وزارة البيئة تأكدت أن نوع القناديل المتسبب فى هذه الظاهرة هو Rhopilema nomadica، وهو من الأنواع المسجلة فى البحر المتوسط منذ عقود . وتم تسجيل انتشار هذا النوع خلال الشتاء الماضى فى لبنان وإسرائيل وقبرص، فى ظاهرة غير مسبوقة، كما ازداد امتداده الجغرافى على الساحل المصري، حيث كان يتركز على سواحل العريش وبورسعيد ودمياط، لكنه امتد أخيرا إلى الساحل الشمالى الغربى، وهذه الظاهرة تستدعى المزيد من الدراسة، لا سيما أن مصر مشتركة فى شبكة رصد القناديل البحرية بالبحر المتوسط، التى تشرف عليها المفوضية الأوروبية لحماية البحر المتوسط.
كما أكد د. غلاب أن انتقال قناديل البحر على مستوى بحار ومحيطات العالم ظاهرة طبيعية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتغيرات المناخية والتلوث والصيد الجائر للأسماك والسلاحف البحرية، وقد سجل التاريخ انتقال نوع Mnemiopsis leidyi من المحيط الأطلسى عبر مضيق جبل طارق، وقد عرف هذا النوع بشراسته بل امتد غطاؤه الجغرافى إلى البحر الأسود، حيث تسبب فى خسائر مادية هائلة.
وأشار د.غلاب إلى أن وزارة البيئة تتجاوب وبسرعة مع أى شكوى أو خلل يحدث فى البيئة، وظهر ذلك جليا فى تعاملها مع الشكاوى المقدمة من ظاهرة ازدياد قناديل البحر، حيث أصدرت البيانات التعريفية والمطمئنة للمواطنين لكيفية التعامل مع تلك الكائنات ولسعاتها وقائيا وعلاجيا. كما شكلت فرق بحث لاصطياد القناديل بالتعاون من المحليات.
إنذار مبكر
ويرى الدكتور مجدى علام رئيس اتحاد خبراء البيئة العرب، أن غزو القناديل للشواطئ المصرية وغياب الإنذار المبكر ليسا بجديدين، بل سبق أن هاجم سمك القرش شواطئ شرم الشيخ مرتين والعين السخنة، ثم ظهور الحوت بالساحل الشمالى. وهذه أدلة على الفشل فى الوقاية والإنذار المبكر لحماية البيئة والطبيعة من أى خلل يحدث فيها سواء معلوم وقته مثل القناديل أو مفاجئ مثل ظهور قروش البحر، مؤكدا أن البيئة المصرية تتعرض لأكبر خطر فى تاريخ الحركة البيئية فى مصر منذ حاربنا لحماية الكون والبشر من غول التلوث الذى يقوده الاستثمار الأعمى والمتجاهل لقوانين التنمية المستدامة، وحان الوقت لوقفة جادة لحماية البيئة.
وأضاف د. مجدى علام، أنه لا يمكن تجاهل التغيير الذى يحدث فى بيئة السواحل والبحار المصرية والإقليمية بسبب التلوث وارتفاع تركيز المواد العضوية. كما حدث عندما تجاهلت الحكومة المصرية الآثار السلبية للسد العالى، التى أكدها رئيس أكاديمية البحث العلمى الروسى فى تقريره الذى أعده العلماء الروس على الآثار البيئية للسد، وكان أخطرها موت آلاف المصريين بسرطان المثانة والقولون نتيجة تغيير النمط السائد للقوقعة والسركاريا المسئولة عن البلهارسيا فى الوجهين القبلى والبحرى.
وأكد علام ضروة تمكين وتفعيل مركز البحوث البيئية لإنقاذ البيئة المصرية من الدمار؛ فقضية التغييرات المناخية قد تؤدى إلى خسائر اقتصادية وبشرية مهولة إذا لم نتصد لها من الآن، وعلى علماء البحار القيام بدور استباقى وتوعية الجمهور والمجتمعات المحلية المعرضة للخطر بحقيقة هذا الخطر الناتج عن تغييرات المناخ والتلوث. وهذه التوعية ضرورية إذا أردنا إحداث تغيير فى المواقف والسلوك. ويلزم تحويل المعارف العلمية إلى حلول عملية تؤدى إلى تعبئة الدعم العام، وعلى نطاق أوسع، يلزم أن يكون هناك تعاون بين الحكومات والمجتمعات المحلية المتضررة لكى يتسنى صياغة وتنفيذ سياسات تهدف إلى تحقيق الاستدامة على الأجل الطويل.