في فن الدراما والسينما، لايوجد قانون يحكم الإبداع، أو يحدد زمن انطلاق شرارته، وإلا ما كان إبداعا وما لمست شرارته القلوب وتعلقت به الجماهير. وكثيرا ما يقدم لنا السباق الدرامي في رمضان كل عام ممثل أو ممثلة وصلوا لذروة أدائهم الفني في مرحلة عمرية متأخرة، وحققوا من درجات نضجهم وتقمصهم في دور معين ما حققوه مجموعا في مجمل أعمالهم أو عمرهم الفني . فكانت (أنوشكا) مثلا في العام الماضي , ومن قبلها بعدة أعوام الفنان (سيد رجب) وغيرهم الكثير , ورغم أن هذه القاعدة لا تنطبق على فنان بحجم وتاريخ (نبيل الحلفاوي) له أدوار قديمة وعديدة في الدراما والسينما تركت بصمات لا تنسى , إلا أن ما صنعه وحاكه ونسجه من إبداعات فنية , وتكنيك خاص جدا في أداء شخصية (مخلوف القانونجي) أبو جميلة (نيلي كريم) جعل من هذا الدور بلا شك محطة فنية مختلفة يتوقف عندها أى متابع لعمره الفني , بل لنفسه شخصياً خلال تقديره الخاص لمسيرته الدرامية والسينمائية. نبيل الحلفاوي الذى لم ينسالمشاهد دوره في أشهر وأهم أدواره ضابط المخابرات (محمد نديم أو نديم قلب الأسد) في مسلسل (رأفت الهجان) وما فيه من كاريزما فنية (قفلت) الدور كما يقال في قاموس الوسط , ترك أيضا علامات سجلتها ذاكرة المشاهد مثل شخصية (زكريا بن راضي) في رائعة جمال الغيطاني (الزيني بركات) , والعديد من الأعمال منها (غوايش) , (المصراوية) , (زيزينيا) , (الكهف والوهم والحب) , (كاناريا) , (الحب وأشياء أخرى) وأخيرا وليس آخرا (ونوس) الذىمهد في العام الماضي لعودة (الحلفاوي) لاستعادة لياقته وعنفوانه الفني من جديد. وبعيدا عن كون مسلسل (لأعلى سعر) كان من الأعمال الأعلى مشاهدة في السباق الدرامي , إلا أن نجاح العمل كان وليد كوكتيل فني رائع كان (الحلفاوي) واحدا من صناع هذا البريق , الذى بدأ بقصة مدحت العدل وتيمة الخيانة التي تربح وتجذب المشاهد دائما , مرورا ببراعة الثلاثي (نيللي كريم وأحمد فهمي وزينة) في نسج خيوط العمل. لم يكن (مخلوف القانونجي) الموسيقار الصعلوك الذى يعتز بمبادئه ويحمل في طيات أحلامه صورة مثالية للناس والحياة , شخصية جديدة بل تم تناولها قبل ذلك مرارا في الدراما والسينما ,لكنها لمسات المخضرم (نبيل الحلفاوي) حين وضع يده على الدور فأخرج منه ما جعله بطلا للمسلسل لم يعترف به الأفيش لضرورات مبيعية وتسويقية لا مكان لها في قانون الإبداع. ملابس (مخلوف) وسيجارته وقهوته التي يحتسيها مع من يحب في شرفة بيته الكائن في أحضان النيل , وابتسامته التي يلقي بها في وجه أطراف الصراع جميعا فيأسر بها قلوبهم , وآلة القانون التي تمصل جزءا من روحه ولكنه باعها حين كان الثمن انقاذ ابنته من التداعي والضياع. ثقافته الموسيقية , أبياته الشعرية , كل هذه عناصر شكلت دوراً محوريا لا تستقيم الأحداث دونه , فلا تتحقق لذة المشاهدة والمتابعة في حلقة يقل فيها ظهور (مخلوف القانونجي). قبل مسلسل (لأعلى سعر) كان نبيل الحلفاوي في ذاكرة المشاهد المصري والعربي هو ضابط المخابرات نديم قلب الأسد بصرامته وشدته وملامحه الحادة وتعنيفه لرأفت الهجان . لكن اليوم فقد حلت شخصية جديدة في ذهنية وذاكرة المشاهد وهي شخصية الموسيقي (مخلوف) , وأعتقد أن هذا الدور بما حققه من علامة سيكون عبئا كبيرا في العام القابل حين يجلس (نبيل الحلفاوي) أمام أكثر من سيناريو ليختار شخصية جديدة يحافظ بها على هذا التراكم الفني المختلف. السؤال : كم بقى لدينا في مصر عموما ممن يمتلكون هذا الحد من الإبداع والاحترافية في مجالهم ؟! سؤال مخيف ولعل إجابته كذلك !!