إذا كانت فكرة إنشاء المحميات الطبيعية في العالم نشأت منذ آلاف السنين، وإعتبرت بعض الأراضي في دول بأنها مناطق "مقدّسة"، تحمل وتحتوي تاريخا وتضاريس طبيعية.. فإن لدينا الحجج الأقوي لإعلان الحماية لها، باعتبار أن ما لدينا من تنوع لمكونات وكنوز شكلتها الطبيعة عبر ملايين السنين، وليس المئات، أو الآلاف، كما تفعل دول في أوروبا وأستراليا والأمريكتين.. ومؤخرا أعلنت الحكومة عن برنامج أطلقت عليه "برنامج تطوير المحميات الطبيعية"، شمل عبارات لم تعهدها المحميات من قبل مثل "إعادة ترسيم - تطوير - استغلال - استثمار للمحميات"، فقررت الآن تبدأ بمحميات "الغابة المتحجرة فى التجمع الخامس"، و"وادى دجلة فى زهراء المعادى"، و"الريان فى الفيوم"، إلي أن يأتي الدور على محمية "وادي الجمال"بالبحر الأحمر، ثم "العميد" في الصحراء الغربية.. بداية، فإن برنامج الاستغلال أي "التطوير" بمنطق الحكومة، كان عند أغلي وأفضل المناطق في قلب مصر وهي القاهرة الجديدة عند التجمع الخامس شرقي القاهرة أو مايسمي بمحمية "الغابة المتحجرة"، ولن نشرح ونوضح لماذا تبدأ الحكومة بتلك المنطقة.. هل هو الحرص الشديد على تطوير المحمية القريبة من العاصمة الحالية والجديدة معا، أم هو أهمية أرضها وموقعها الملاصقة لأراض ومناطق الأغلي في مصر، أو أن وراء التطوير عيون رجالا الأعمال والمستثمرين، ولا يخفي أن العائد المادي الفلكي يجعلها البداية لافتتاح موسم التطوير.. مساحة المحمية وبها الغابة المتحجرة تبلغ حوالي60 كم2، وتبعد المحمية عن القاهرة بمسافة 30 كيلو مترًا جهة الشرق، وتعتبر محمية جيولوجية لانها غنية بسيقان وجذوع الأشجار المتحجرة، وهي علي هيئة أشكال قطع وتكوينات صخرية ومقاطع أسطوانية متعددة الأشكال وتدرج اللون، وتضم في واديها النادر مجموعة من الكائنات الحية الحيوانية، كما تم تسجيل 18 نوعًا من الزواحف النادرة تعيش هناك.. للدكتور خالد فهمى وزير البيئة منطقا ورؤية واضحة في مسألة تطوير المحميات، شرحها قائلا: مساحة المحميات الطبيعية في مصر تقارب نحو 15% من مساحة مصر، وهى مساحة كبيرة لذلك لابد من استغلال المناطق التى لاتتماس مع الحساسية البيئية، وأستطيع من خلال التطوير تحريك البعد الاقتصادي، بمعني وضع خطة عمل ومشروع بيئي نتمكن من خلاله مواجهة أعباء حماية وصون المحميات الطبيعية ونحقق اكتفاء ذايتا للمحميات بعيدا عن الموازنة العامة للدولة.. المنطق يقول إن هذا التوجه يتوافق مع النظر للامور بواقعية، لأننا نعلم أن أعباء حماية المحميات تحتاج الي موارد ضخمة، خاصة وأن الوزير فسر وشرح التطوير والاستثمار من خلال الانتفاع الاقتصادى من السياحة البيئية مثل "النباتات العطرية" التى تصنع منها الأدوية، وعمل متاحف بيئية، ومشاهدة الطيور، ورياضات الغطس والسفارى وتسلق الجبال، والتزحلق على الرمال، وكل هذه المنشآت والمرافق تتم من مكونات بيئية تتماشي مع الكيان الطبيعي للمحمية، وهذه الأنشطة ليست جديدة، فالعديد من الدول والمناطق تفعل ذلك بما لايشكل تعديا علي المحميات، أي لابد من توفير خدمات لزوار تتوافد بأعداد كبيرة، باعداد مظلات ومقاعد وحمامات وكافيتريات، وعلامات إرشادية وتفسيرية، إلى جانب صيانة للمدقات وتوفير ممرات للدراجات البخارية، ومناطق لخدمة انتظار السيارات وكذلك مساحات ترفيهية للأطفال، وذلك من خلال مشاركة المجتمعات المحلية باعتبارها الأكثر قربا وملاءمة لتنمية المحميات والحفاظ عليها، وهي بالتالي تستفيد من التطوير بتنمية قدراتها. وهنا نحيي هذا التوجه بشكل عام، وهو تنمية المحميات ذاتيا بما لا يشكل تهديدا لكيان المحميات، لأن المخاطر هنا أن تكمن في التفاصيل، بمعني أن ماقاله الوزير هو أن لدي توجه الحكومة باقتطاع مساحة من المحمية لانشاء تقترب من 20% تقريبا من مساحة المحمية، وهذه المساحة المقتطعة هي التي سيقام عليها المشروعات التي تقول الحكومة أنها بيئية، ونقول أنها بعد مرور وقت قصير، ستتحول الي مشروعات تجارية,, وعندها لن ينفع الندم، لأن من يفرط في الجزء يفرط في الكل.. ولا أتجاوز أذا قلت أن التمسك بالمحميات الطبيعية الحالية بحدودها غير المنقوصة، يجعلنا نسعي بجدية الي البدائل وهي أرض الله الواسعة في كل بر مصر الممتد شرقا وغربا وشمالا وجنوبان لكي نتجه الي خارج مساحة المحميات واستغلال أراض مصر وسمائها بشكل واقعي وباسلوب جاد، وأتحدث عن باقي مساحة مصر غير المستغلة وهي 85% من مساحتها..تريدون التطوير.. تبحثون عن الاستثمار.. ترغبون في الربح.. تسعون للثروة.. نعم هي مطالب مشروعة، ولكن أقول لكم هذه هي أرض مصر المترامية، فهي أكثر من 80% من الاراضي المناسبة لكافة الانشطة المتنوعة والمختلفة هي ملك لكم، ولكن اتركوا المحميات، لأننا لم ولن ننسي ماحدث للقطاع العام والخديعة الكبري، حيث حشدت فيه الحكومة "في السابق" ووراءها رجال الأعمال وصدعوا رؤؤسنا بالمميزات التي ستعود علي مصر وشعبها.. وبعد أن تبيع القطاع العام، تضاعفت ازماتنا وتكاثرت مشاكلنا، وقفزت ديوننا ولم نقبض سوي الريح.. بعد أن فرطنا في المشروعات وأرضها وعمالها..حتى ما تسعي الحكومة للحصول عليه من عائد للاستثمار في المحميات لن يجدي كما حدث مع أموال بيع القطاع العام.. لا نريد أن نعيد تجربة بيع القطاع العام ونكررها في المحميات "تراثنا الطبيعي"، بعد أن فرطنا في تراثنا الأقتصادي "القطاع العام".. اتركوا التراث ولديكم آلاف البدائل، لن نفرط في المحميات كما فرطنا في القطاع العام.. ولا شك أن أهمية المحميات "التراث الطبيعي" هي أغلي من التراث الأقتصادي، فهذا التراث الأخير يمكن تعويضة، فهو اصول مادية يمكن تعويضها، أما المحميات فهي التراث الطبيعي والرصيد الذي لا يمكن تعويضه لأنه تراث معنوي تراكمي تكون وتشكل عبر آلاف بل ملايين السنين.. من يملك البيع لأراضى المحميات، هل هي وزارة البيئة، كنا نظن ذلك، لكن وزير البيئة كشف أن وزارته لاتجروء، بل ولا تملك القرار، لأن مثل هذا التوجه هو قرار الحكومة، فهي التي تقرر كم ومتي واين تبيع وتستثمر.. الوزير تحدث بصراحة قائلا: ان الوزارة تضع أمام المستثمرين شروطا قاسية واشتراطات قوية للحفاظ علي كيان المحمية بما يكفل عدم إحداث تغييرات في طبيعة المكان، وأسأل وزير البيئة سؤالا بريئا: مع كل القوانين الصارمة، ومعها اللوائح القاسية التي وضعتها الدولة لحماية البيئة، ومع كل الجهود المخلصة لتطبيق القوانين وحماية حقوق الدولة، هل استطاعت القوانين واللوائح والجهود من الحفاظ علي المحميات أو حتي حمايتها.. كلنا نعرف ماذا يحدث من تعديات علي المرافق في قلب المدن، وفي وضح النهار.. فما هو حال الحماية للمحميات البعيدة المترامية، لا شك أنها تتعرض لمخاطر تتهددها من كل اتجاه، ومع التفريط في جزء منها، فإنها لا شك مهددة، بل إننا نضعها في بؤرة المخاطر مقابل عائد مادي، وبئس العائد إذا كان ما يقابله التفريط في التراث.. عندما أعلنت حدود المحميات في الماضي بقرار أو بقانون، كان التحديد في الأيام الخوالي، كريما عندما حدد نطاق المحميات، وإذا كان الاتجاه هو الاستفادة من أراض في المحميات، نقول إن أراضي مصر واسعة، ولا تقولوا عبارات فضفاضة مثل "إعادة ترسيم لحدود المحميات"..اتركوا 15% من مساحة مصر "150 ألف كيلو متر مربع"، باعتبار أن مساحة مصر مليون كيلومتر مربع، أي أن أمامكم 85% بواقع" 850 ألف كيلومتر مربع"من بر مصر تنتظركم، وافعلوا فيها ما شئتم من الاستثمار والمشروعات.. هذا التطور لا نستطيع ألا أن نناقشه بواقيعة، والواقعية كما كشف عنها وزير البيئة، أن محمية مثل "محمية البرلس" عدما اعلنت كان في نطاقها منشآت وورش ومصانع، وبالتالي فإن هناك معاناة مزدوجة من قبل المواطنين المستثمرين أصحاب المشروعات الذين فوجئوا أن مشروعاتهم وممتلكاتهم تقع في زمام المحمية، وهذا واقع لا نستطيع أن نجادل في صحته، ولكننا سنناقش ونعترض علي تطبيق هذا الاتجاه علي محميات أخري طبيعية مازالت بكرا مثل وادي دجلة والريان ووادي الجمال والعميد.. مهما كانت التوجيهات الرسمية مطمئنة اليوم، وأي كانت التصريحات بعدم المساس بالمحميات، ومهما وضعنا من الضوابط والاشتراطات والالتزامات البيئية، وقمنا بوضع المعايير والمواصفات القياسية.. فإن كل ذلك - بالتجربة- سيتغير غدا، وعند ذلك لن تنفعنا شعارات "الاستدامة"، لأن واقع التعديات الراهنة والحالية الذي اخترق كل تلك المحاذير والمعايير يجعلنا نقول بلا تردد: لا لتغيير حدود المحميات ومعالمها لأن محمياتنا الطبيعية ليست للبيع.