المشهد: ليل خارجي، قاعة أسفل أحد الكباري، بجدارين وسقف ومنظر طبيعى خلاب فى المؤخرة يطل على مجرى النيل، وخشبة مسرح فى المقدمة تفتح بوابة سحرية إلى عالم آخر، أبعد ما يكون عن ظلام ذلك المكان الداكن والمتكدس بكمية بشر «سكارى» بما يسمعونه، ومغيبون عن الواقع بوقع إيقاعات موسيقية، وصوت غنائى يلامس المشاعر تلقائيًا، بعض كلماته بلهجة غير مفهومة، والبعض الآخر لا يهم فهم معانيه بالأساس، فالكل «يرقص» و«يهتف» لا إراديًا مع كل كلمة يلقيها، وكل «لمسة» على أصابع كيبورد أخذ ركنًا من الخشبة يتقدمه «مايك»، مصحوب بأنين كمان وصياح ترومبيت وحركات جيتار وقليل من «صدى» صوت من فرقة موسيقيين احتلت المسرح. بدأ المشهد بهدوء ما يسبق العاصفة، وكأنك ضغطت زر «كتم الصوت» حين مشاهدتك لفيلم غنائي، حتى كسر حاجز الصمت ببضع كلمات كانت كفيلة بزلزلة المكان ب«صرخات» مدوية، «هلا يا مصر، أنا عزيز مرقة». رحّالة متعدد الألقاب، مطرب ومؤلف ومنظم حفلات ومنتج موسيقي، لخص معانى الوطنية والانتماء وحتى الغربة، بكونه أردنى من أصول تونسيةوفلسطينية ومستقر بأمريكا، خلق لنفسه مسارًا موسيقيًا لم تعتده الآذان فى العالم العربي، اخترع موسيقى جديدة سماها «الراز»، مزيج من موسيقى الجاز والروك المتأثرة بطابع الموسيقى العربية والروح الشرقية، يمكن تعريفه بأشهر أغانيه «هي»، و«مين قلك»، و«يابنت الناس»، وبالطبع «رجعونى على عمّان»، المطرب والفنان الأردنى عزيز مرقة.
. أنت أردنى من أصول تونسيةوفلسطينية، فما معنى الوطن بالنسبة لك؟ «الوطن» هو الموسيقى بالنسبة لي، فأنا ولدت فى تونس وعشت فيها أول سنوات حياتى وطفولتي، ووالدى فلسطينى تعرف على والدتى فى قطر خلال عمله هناك، وبعد تفاقم الوضع فى فلسطين قرر النزوح إلى الأردن والاستقرار فيها، وأعتبر نفسى حاملًا للهوية الأردنية، بدأ شغفى بالموسيقى هناك، كما أننى متزوج من أمريكية وأعيش فى الولاياتالمتحدة، فهذا يجعل ابنى يحمل على عاتقه «أعراقًا» و«أصولًا» مختلفة، ولم أجد معنى لفكرة «الوطن الأم» متعلقًا ببلد ما، وإنما فيما وجدت فيه شغفى بنهاية المطاف.
بشهادة جمهورك حصلت على براءة اختراع لنوع موسيقى جديد.. فكيف كانت بداية رحلتك؟ يمكنك القول «حب من أول نظرة» جمعنى بآلة البيانو، وقعت فى عشق موسيقاها منذ الطفولة، وقررت أن تكون الموسيقى هى مجالي، وقد كان، ونلت نصيب الأسد من الدعم من والدي، الذى أصر على نجاحى ودراستى لما أحب، والتحقت بالأكاديمية الأردنية للموسيقى، وحصلت منها على فرصة منحة دراسية خصوصا فى الولاياتالمتحدةالأمريكية لدراسة الموسيقى فى جامعة أركينسا، واعتبرت بمثابة نقلة حياتية، حيث بدأت فيها صنع موسيقاى الخاصة «الراز».
بعيدًا عن التصنيفات الموسيقية المعتادة، أنت خلقت «نمط جديد».. فما المقصود ب «الراز»؟ الراز هو «خلطة» موسيقية جمعت فيها بين موسيقى الجاز ولمسات من موسيقى الروك، وتأثرت فيها بالروح العربية للموسيقى الشرقية، فكان النتاج موسيقى غربية لها ملمح شرقي، وكان ذلك مشروع تخرجى فى الجامعة، حيث قررت به التمرد على النمط التقليدى للموسيقى الكلاسيكية وعالم الأوركسترا، وخلق نوع مختلف، وفوجئت وسعدت فى نفس الوقت بردود الفعل خصوصا من قبل الأساتذة والجمهور فى أول حفلاتي.
أثرت الجدل بإعادة تقديمك السلام الملكى الأردني.. لماذا الإصرار على وضع لمستك الموسيقية عليه برغم الانتقادات؟ دومًا ما تمثل لى الوطنية مفاهيم أعمق من فكرة «البلد» و«الانتماء»، فأنا أنظر إليه من منظور «الإحساس» و«الانتماء العاطفي» أكثر، وهو ما يمكن تجسيده بموسيقى أكثر من مجرد شعارات، فدومًا ما كنت أستمع إلى السلام الوطني، وشعرت أن هناك شيئًا ما يمكن أن يضاف إلى اللحن والطريقة التى يعرض بها ليكون أكثر تأثيرًا وملامسًا للمشاعر، فقررت إعادة توزيعه على طريقتي، وبالفعل خرج بصورة أقرب وأفضل مما تخيلته، ولكن لم يجد ترحابًا فى البداية ممن حولى ونال انتقادات وهجوما ودخلت فى دوامة «الانتماءات السياسية» والتوجهات، برغم أن انتمائى الوحيد للموسيقى؛ وليس لتيار أو جهة.
«الغربة» ملمح أساسى فى أكثر أغانيك.. كيف أثرت عليك وتجسدت فى موسيقاك؟ اعتدت التنقل بين البلدان منذ الصغر، وعند سفرى لأول مرة لأمريكا، كان ذلك بمثابة تحد وتجربة معيشية وشخصية أكثر منها مجرد دراسة، ووجدت نفسى تلقائيًا أجسد معانى الغربة فى بعض الأغاني، لأننى أعزف وأغنى ما أشعر به، وربما تجد ذلك واضحًا فى أغنية «رجعونى على عمان»، والتى تعد من أكثر الأغانى التى أقدمها فى حفلاتى وأكثرها تأثيرًا فيّ، بجانب أغنية «لحالي»، ليست الفكرة التمحور حول موضوع بذاته فى الأغاني، ولكنها تأتى بحسب ما أكتب وما أشعر به ويخرج بصورة غنائية. . هل أغانى «يا بنت الناس»، و«هي»، و«اتذكرتك»، نتاج تجارب عاطفية شخصية؟ فى هذه النقطة بالذات ليس شرطًا ارتباط الأغانى الرومانسية أو التى تحمل لمسات عاطفية بتجارب شخصية، لا أنكر أنها ربما تحمل فى فحواها بعض الرتوش سواء فى الموسيقى أم الأفكار أم إحساس الغناء، لكن معظم تلك الأغانى مثل «يا بنت الناس» و«هي» و«سمعتك»، وحتى «كتير عادي» ربما تكون قريبة لشخصيات أناس أعرفهم، أو تجارب سمعتها وقررت غناءها. قد تجد فى أغانى هذا الرحّالة الأردنى ملاذا عاطفيا ففى أغنيته «مين قلك»، جرعة رومانسية مفرطة بكلمات «أنتى يلى بنظرة صغيرة غيرتيلى حالي، وأنا يلى صرت أصلى إنه يوم أقدر أحكيلك كل شى على بالي»، وتكمل صورتها العاطفية مع أغنية «هي»، أكثر أغانيه شهرة فى الحفلات.. «هي»، «الجواب على كل سؤال، هى الأحلام وهى الخيال، تخيل طلعت هي، هى الحياة وهى الآمال». . أنت مطرب وملحن ومنتج موسيقى ومنظم حفلات.. أيها الأقرب إليك؟ فى نهاية المطاف أنا موسيقي، وعملت ك»منظم» مسئول عن مهرجانات بالكامل تضم عدة فرق وتجارب موسيقية، مثل مهرجان «باند أكروس بوردرز» أو «باب» الذى أقيم أخيرًا فى الأردن، جعلنى أرى الأمر بشكل أوسع، بالطبع أصعب ولكنه فى النهاية ممتع، ما دام الأمر يجعلنى أنقل رؤيتى الموسيقية بشكل أكبر، وهو ما تجسد جليًا فى كونى «منتجًا»، فأول الصعوبات التى تواجه أى فنان مستقل هى الإنتاج والتمويل، لكن المردود المادى حاليًا بعد سنوات طويلة من النقش ع الحجر يعطينى فرصة أكبر للإبداع وتجسيد ما أريده من مزيكا على طريقتى دون تدخل من جهة منتجة.
تبنيت أخيرًا موهبة صوتية جديدة فى الأردن، وأنتجت لها أول أغانيها؟ لماذا؟ وهل ستستمر فى دعم المواهب؟ ستيفانى نعواس من الأصوات القليلة التى سمعتها و»شدتني»، وأعجبنى أكثر كونها مثابرة ومجتهدة فى العمل وتطور من أدائها وصوتها، هى عضوة أساسية فى فرقتى منذ نحو 6 سنوات، برغم كونها طبيبة أسنان، وقررت السير فى مشوارها الفردى كمطربة، وبالفعل بدأت أول خطواتها بتقديم أغنيتها الأولى «بعدك ما حبيت»، ظلت الأغنية طى الكتمان لنحو سنتين، ونجحت فى الاختبار، ومستمر معها حاليًا فى العمل على أعمالها الجديدة، وبالطبع سأستمر فى دعم المواهب طالما أجدها تستحق ذلك.
قدمت منذ أيام أغنية مصورة جديدة «ماما»، لمحنا بها تجديدًا فى الموسيقى وحتى الكلمات.. فما الجديد فى جعبتك الفترة المقبلة؟ «ماما» كليب بسيط قدمته هدية للجمهور بمناسبة عيد الأم، وحمل بعض التجديد فى الموسيقى، وبساطة فى اختيار الكلمات الأقرب لفهم الأطفال وبراءتهم، وأضع حاليًا اللمسات الأولى على عدة «أغان منفردة»، وحفلات بين الأردن وأمريكا، وأنوى العودة إلى مصر عما قريب، بعدما أسرنى الجمهور المصرى بالحب والاهتمام فى حفلتى الأخيرة بالقاهرة عقب مطالبات منهم بعودتى بعد أول حفلاتى بمصر نهاية العام الماضي، التى أتت بعد غياب نحو 10 سنين، وظهرت فيها لأول مرة كمشروع عزيز مرقة، أما عن الجديد، فمازال فى جعبتى الكثير، والموسيقى بحر واسع، لا يمكن الاكتفاء من الإبحار فيه.