التاريخ دروس وعبر.. لمن يريد أن يعتبر.. لكن المشكلة أننا أحيانا لا نعتبر.. وأحيانا أخري ننسي أو نتناسي دروس التاريخ.. واذا كان النسيان نعمة.. فإن عدم النسيان يصبح ضرورة في بعض الأحيان. نقول هذا بسبب ما نحن بصدد الحديث عنه اليوم.. ألا وهو ما سمي في وسائل الإعلام خلال الاسبوع الماضي بأزمة المعتمرين المصرييين بمطار جدة وتكدسهم بالآلاف في المطار منذ ليلة القدر بعد أن فشلوا في العودة إلي مصر قبل عيد الفطر, حسبما كان يخططون أو يأملون!! ويخطئ من ينسي أو يتصور أن أزمة عودة المعتمرين المصرين في نهاية شهر رمضان الماضي تحدث لأول مرة.. فتلك قضية قديمة حدثت أكثر من مرة في السنوات الأخيرة.. ربما تكون قد حدثت بشكل أقل ولكنها تقريبا تحدث بشكل متكرر في السنوات العشر الأخيرة, ولذلك تحولت لغة الحديث عنها في الإعلام إلي أزمة سنوية ننتظر أو نتوقع حدوثها في أي وقت.. بل حتي قبل حدوثها سنويا تمتلئ الصحف وكل وسائل الإعلام بتصريحات هنا وهناك حول الاستعدادات الجادة كل عام لمنع حدوث أو تكرار حدوث الأزمة. ولذلك فنحن نقول ان أزمة المعتمرين الحالية لا تحدث للمرة الأولي ولن تكون الأخيرة طالما بقيت أسباب الأزمة قائمة دون حلول جذرية تمنع تكرار حدوثها في السنوات المقبلة.. ورغم اننا كتبنا قبل ذلك في سنوات مضت وغيرنا كتب للحقيقة ورغم أن جوانب المشكلة أو الأزمة معروفة والحلول يمكن وضعها بسهولة ومعروفه للجميع إلا أن السنوات السابقة لم تجد من يجرؤ علي القرار في كل ما يتعلق بحسم مشاكل العمرة والحج أيضا رحمة بالمصريين.. ومع هذا نعيد الكلام اليوم, فلعل أحدا من المسئولين يبتلع حبوب الشجاعة بحسن نية ولصالح المواطنين ويعمل علي إصدار القرارات والحلول الشافية من هذه الأزمة التي تحولت إلي فيروس أو مرض مزمن يصيب المصريين كل عام. إن الهروب من الحقيقة هو أخطر أمراض المجتمع الآن.. كما أن التمسح بالاعذار الوهمية وعدم القدرة علي المواجهة واتخاذ القرارات الصحيحة القوية يصيب المواطن أو المجتمع والدولة بأضرار بالغة, مع أنه من السهل الوصول إلي الحقيقة اذا خلصت النوايا. والحقيقة هنا في أزمة المعتمرين, وببساطة شديدة هي أن اعداد المعتمرين الذين يريدون العودة إلي ديارهم في الأيام الثلاثة الاخيرة من رمضان وعقب ختام المصحف الشريف في مكةالمكرمة في ليلة القدر تكون أعدادا هائلة تفوق قدرة الطيران بكثير, خاصة أن الكثيرين يخرجون للمطار دون حجوزات مؤكدة علي مواعيد محددة. أملا في أن تساعده الظروف علي العودة بأية وسيلة يعني فهلوة وشطارة أو استعباط.. بس للاسف ليست في محلها.. والنتيجة الأزمة أو الكارثة التي نتحدث عنها.. بل الأدهي من ذلك أن هذه الاعداد الهائلة التي تخرج بالآلاف إلي المطار دون حجوزات مؤكده بمنطق أنا ومن بعدي الطوفان.. لا تكتفي بذلك بل تخرج محملة بحقائق وزكائب من المشتريات والهدايا لا أنزل الله بها من سلطان.. هدايا ومشتريات عجيبة تباع في مصر بأسعار أرخص مما تباع بها في المملكة العربية السعودية, بل الأغرب أنها أحيانا صناعة مصرية ولكن هي عادة المصريين خاصة البسطاء.. فتجد المعتمر قد جاء إلي المطار ومعه كمية من البطاطين والمراوح الكهربائية وأجهزة الراديو الكاسيت الضخمة وغيرها من الاشياء العجيبة ويريد أن يضعها علي الطائرة, بل ليس في مخزن الحقائب بل يريد أن يخرج بأكبر قدر منها إلي كابينة الطائرة واذا استطاع فعلي نفس الكرسي الذي يجلس عليه. أشياء عجيبة من هذا القبيل تحدث ولا حياة لمن تنادي, اذا حاولت اقناعهم بأن حمولة الطائرة لا تسمح بذلك وأن لك حقيبتين فقط كل منهما23 ك.ج وأن لك في الكابينة حقيبة واحدة وأن قواعد الطيران الدولي وفي كل الشركات العالمية تحدد ذلك بوضوح ودقة.. لكن تقول لمين!! وتشرح لمين أن حمولة الطائرة من بشر وحقائب يجب ألا تزيد عن رقم معين من الأطنان حسب نوع كل طائرة وإلا تعرضت للخطر.. بل الأغرب أن شركة الطيران هنا اذا طالبت المعتمر بأن يدفع مبالغ محددة علي الوزن الزائد فهو يرفض وبشدة. إن البعض قد يعتبر مثل هذا الكلام سهلا وبسيطا ولا يحدث الأزمة التي نتحدث عنها.. ولكن للأسف نقول إنه ليس سهلا أو بسيطا, لدرجة أن أحدا لا يتخيل أن السير الذي توضع عليه هذه المشتريات أو الحقائب في المطار يمكن أن يتعرض للكسر أو للعطل كما حدث هذا العام لأن هذا السير أيضا له حمولة معينة, فإذا زاد التحميل عليه فقد يحدث ما لا تحمد عقباه.. إن ما حدث في مطار جده هذا العام هو أن الأرقام تشير إلي زيادة أعداد الراغبين في العودة بشكل كبير, فقد كان هناك نحو5 آلاف وفي رواية أخري10 آلاف معتمر تخلفوا عن العودة في مواعيدهم في النصف الأول من رمضان أو حتي قبله وجاءوا إلي المطار في الأيام الأخيرة من رمضان لينضموا إلي أصحاب الحجوزات الحقيقية بالآلاف وبالتالي حدث التكدس رغم عدد الرحلات اليومية الكبير من شركتي الطيران السعودي ومصر للطيران.. إلا أن الاعداد الكبيرة التي تكدست في المطار كانت أكبر من طاقة النقل, خاصة الطيران السعودي الذي حدث به ارتباك لا نعرف أسراره حتي الآن, ولعل التحقيقات السعودية الدائرة الآن تكشف عن ذلك خلال الأيام المقبلة.. فالذي نعرفه أن الطيران السعودي أحدث تعديلا علي جداول الطائرات وقام بالفعل بإلغاء25 رحلة تقريبا اسهمت في زيادة التكدس, مع ما صاحب ذلك من زيادة في أعداد المعتمرين بدون حجوزات وزيادة في كمية الحقائب والمشتريات وقبل ذلك تعطل بعض السيور في مطار جدة.. صحيح أن السلطات السعودية تدخلت, وصحيح أن مصر للطيران بذلت جهودا كبيرة للمساعدة.. لكن الأزمة قد حدثت بالفعل لكل الأسباب السابقة.. علي العموم لقد علمت من السفير السعودي النشيط بالقاهرة أحمد قطان أن جلالة الملك عبد الله قد أعطي توجيهات بضرورة التحقيق وكشف كل الملابسات التي أدت إلي متاعب المصريين, وستعلن فور انتهاء التحقيقات بكل صراحة. والمهم الآن.. كيف نحاول منع تكرار هذه الأزمة؟! أقول بداية أن السيد منير فخري عبد النور وزير السياحة والطيار لطفي مصطفي كامل وزير الطيران المدني وأحمد قطان السفير السعودي بالقاهرة قد بحثوا في الأيام الماضية ضرورة وضع حلول جذرية لمنع تكرار هذه الأزمة, ونحن بدورنا إذا كان لنا من مساهمة بالرأي فنقول: *إن البداية يجب أن تكون من دراسة حجم القافلة الناقلة بدقة سواء الطيران أو البري أو البحر, بحيث يتم الاتفاق مع السلطات السعودية علي عدم اعطاء تأشيرات عمرة في رمضان تفوق هذه الطاقة. *وإذا كانت الأرقام التي عرفناها تشير إلي أن القنصليات السعودية منحت فقط بالقاهرة نحو22 ألف تأشيرة في رمضان وبالتالي يمكن القول إن هناك مثل هذا الرقم من قنصلية السويس وكذلك الاسكندرية فإن الاجمالي لا يتعدي70 ألف تأشيرة وأن التأشيرة لمدة اسبوعين وأن هذه التأشيرات موزعة علي شهر رمضان بالكامل, أي أن الذي سافر في أول رمضان كان عليه العودة في منتصفه, فكيف حدث هذا التكدس بالآلاف في مطار جدة؟! ومن المسئول عن تخلف المعتمرين حتي من قبل رمضان بما يدفعهم إلي العودة قبل العيد مباشرة؟! تلك قضية يجب التوقف عندها ومحاسبة كل مسئول عنها سواء شركات سياحة أو جمعيات أو غيرهما. *أيضا أن نقترح التفكير في ضرورة إلزام الشركات والجمعيات من منظمي العمرة بعدم ذهاب المعتمرين إلي المطار إلا بعد التأكد من إنهاء جميع إجراءات سفرهم وتأكيد حجوزاتهم علي الطائرة بل حتي قيام مندوب الشركة أو الجمعية بتجهيز بطاقات الصعود لهم الي الطائرة قبل مغادرتهم لفنادقهم أو أماكن إقامتهم. * أن نبحث عن وسيلة لإقناع المعتمرين أو إرشادهم بتعليمات الطيران حول الوزن أو عدد الحقائب وأوزانها وأحجامها التي يجب أن يسافر بها علي الطائرة ومازاد عن ذلك يجب شحنه عن طريق البضائع وأن تكون مسئولية منظمي العمرة عن ذلك اساسية ولا يسمح لأي معتمر بالخروج بهذه الأوزان الزائدة, وأن يعلم أنه سيدفع عليها مبالغ قد تفوق ثمنها الأصلي في بعض الأحيان وأن يكون المعتمر علي دراية بذلك قبل أن يتحرك من الفندق قبل مرحلة العودة. * يبقي في النهاية بعد طرح هذه الأفكار أو الحلول لمنع تكرار أزمة المعتمرين أن نتحدث عن جانب آخر مهم في قضية العمرة للمصريين.. وهو الجانب الاقتصادي لتكلفة العمرة والحج أيضا. فالأرقام تشير الي أن عدد المعتمرين المصريين هذا العام بلغ نحو700 ألف معتمر تقريبا ويستعد الآن نحو80 ألف حاج طبقا للأرقام الرسمية لموسم الحج.. وبذلك نكون أمام نحو800 ألف معتمر وحاج مصري سيسافرون الي السعودية هذا العام.. وهذا العدد ارتفع عن ذلك في سنوات سابقة ويرشح للزيادة ليقترب من المليون في السنوات القليلة المقبلة. والسؤال يطرح نفسه: كم ينفق المصريون علي الحج والعمرة سنويا ؟ إن أغلب التقديرات التي توصلت إليها تشير الي أن إجمالي ماينفقه المصريون علي العمرة والحج يصل الي أكثر من15 مليار جنيه مصري ويتضمن هذا المبلغ كل تكلفة العمرة أو الحج بما في ذلك أسعار تذاكر الطيران واجمالي مبالغ مشتريات الهدايا من بطاطين ومراوح وأجهزة كاسيت وخلافه, بل ان بعض المهتمين يقولون ان هذا المبلغ يفوق ال15 مليار جنيه بكثير باعتبار متوسط الانفاق للفرد الواحد سواء في العمرة أو الحج أكثر من15 ألف جنيه ونقول متوسط لأن البعض ممن يسكنون بفنادق ال5 نجوم وال4 نجوم يدفعون أكثر من ذلك بكثير. وأيا كان الرقم.. فإنه لن يقل عن15 مليار جنيه وهو رقم مهول يمثل عبئا علي الاقتصاد المصري أو ضغطا علي الجنيه المصري عند تحويله الي الريال السعودي, وبالتالي فنحن أمام قضية اقتصادية مهمة وهي اخراج كل هذا المبلغ من مصر سنويا.. وبالتالي يطرح البعض فكرة منع تكرار العمرة في مدة معينه مثل تحديد الحج كل5 سنوات خاصة ان بعض الفقهاء يؤيدون ذلك استنادا إلي هذا التكرار قد يكون من المفيد عنه المساهمة في اعمال الخير أو مساعدة الفقراء من الأهل. صحيح أن تلك حرية شخصية وأموال خاصة وصحيح أنها شعائر دينية لا يجوز التدخل فيها أو الاقتراب منها, لكن البعض يتحدث عن ذلك من قبيل التحليل والدراسة والنصيحة ليقول للمصري من حقك أن تسافر وتحج وتعتمر.. لكن موضوع شراء البطاطين والمراوح وأجهزة الكاسيت التي تستنزف أو تضغط علي الجنيه المصري أو الاقتصاد المصري يجب التوقف عندها, فكل شيء موجود في مصر وبأرخص من السعودية.. فهل نحن قادرون علي تصحيح هذه السلوكيات. نرجو ذلك.. حتي لا يأتي العام المقبل ونتحدث من جديد عن أزمة المعتمرين.. وقانا الله من شرور الأزمات. [email protected] المزيد من مقالات مصطفى النجار