فلنفترض أنه احتمال ممكن, تقرر مؤسسة إعلامية مصرية مستقلة أن تنشئ قناة جديدة اسمها النيل مباشر من قطر. غير أن هذه القناة التي تبث ارسالها من الدوحة لم تراع واجبات ضيافتها في قطر, ولا آداب العرف الإعلامي السائد من التزام الجيدة والموضوعية عند تناول شئون البلد المضيف, بل راحت منذ اليوم الأول لبث ارسالها من قطر تقتحم الشئون الداخلية لهذا البلد وتتطفل دون رادع علي أخص الشئون التي تعني القطريين دون غيرهم, وعلي هذا فهي تجري وتذيع من الدوحة سلسلة من البرامج والندوات موضوعها من الأحق بتولي كرسي الحكم في الإمارة ومن الأجدر بولاية العهد فيها, وزادت علي ذلك عددا من البرامج الوثائقية عن علاقة الأبناء بالآباء في الأسرة الحاكمة وربطت بين هذا وبين التيارات السياسية والدينية في الإمارة مع انحياز واضح لتيار بعينه من هذه التيارات, وعلي هامش هذه البرامج يحتل أسفل شاشة قناة النيل هذه شريط لانباء مكتوبة تتابع فيه طول الوقت أخبار عن الجرائم الاجتماعية والأخلاقية في قطر مع قدر كبير من التضخم لهذه الجرائم والمآسي ودس انباء وأرقام عن الاسراف والبذخ في الدوائر العليا وعن عيشة الكفاف في الطبقات الدنيا. كم تظن أن صبر الدولة في قطر سيطول علي مثل هذه القناة المتهورة والسليطة؟ لا أظنه يطول ولكنني أعرف أننا نحن في مصر نصبر صبرا غير جميل علي تجاوزات مماثلة لتلك بالضبط ترتكبها قناة الجزيرة مباشر من مصر في حق سياستنا الداخلية, وأحيانا في حق سيادتنا, فتحت ستار ندوات الرأي والرأي الآخر تستضيف القناة النشطاء السياسيين في الأحزاب والتيارات المصرية المختلفة بعد الثورة لتتحول المناقشات بفضل أسئلة المذيعين والمذيعات المسمومة إلي مشاجرات حادة علي غرار البرنامج الهيستيري الاتجاه المعاكس, والهدف بالضبط هو تشويه صور كل التيارات المدنية في مصر لصالح الاتجاه المعاكس لهذه التيارات, ثم هي تنتقل خطوة أبعد من ذلك لتتحدث عن المرشحين المحتملين للرئاسة ومزاياهم وفرصهم في النجاح, مع انحياز واضح لمرشحي التيارات الدينية المتطرفة, بل إن بعضهم أعلن عن ترشحه من خلال هذه القناة بالذات فأعقب الترشيح طوفان من رسائل التأييد ومن برامج التلميع علي شاشة الجزيرة مباشر لمرشحيها المصطفين. وليست جديدة بالطبع علاقة قناة الجزيرة بالتيارات الدينية المتطرفة. وأكرر صفة( المتطرفة) لأن كاتب هذه السطور يؤمن مثل جمهور المصريين بأن ديننا الحنيف السمح يرفض الغلو والتطرف, ولكن لقناة الجزيرة رأيا آخر. فهي قد لعبت, ومازالت تلعب, دورا محوريا في الترويج لأكثر التيارات تطرفا, وكانت هي البوق الإعلامي لأسامة بن لادن منذ بدء حركته وحتي مصرعه, ودأبت علي تقديمه في صورة الفارس المغوار إذ يمتطي حصانه ويرتعي الجبال, ويمسك بندقيته وفي أحيان أخري وهو في جلسة بدوية في العراء يلقي شعرا! وارجو الا يستهين أحد بتأثير الصورة المجردة المستخدمة بذكاء في بناء وتضخيم أسطورة البطل لدي عامة الناس. وقد لفت انتباهي بشدة الحماس الفوري الملتهب من القناة لهجوم الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وبروزتها لصورة بن لادن وكتبت حينها في مجلة سطور المصرية المتوقفة الآن مع الأسف مقالا في أعقاب الهجوم, أبديت فيه دهشتي من حماس قناة الجزيرة لهذا العمل الإرهابي ولهفتها قبل أي جهة أخري علي نسبة هذا الهجوم للمجاهدين المسلمين, بينما كان رأيي أن هذه العملية الإرهابية المشبوهة قد أهدت عالمنا الإسلامي والعربي إلي أمريكا الاستعمارية علي طبق من ذهب. أو لم يكن من عواقب هذا الهجوم ضياع أفغانستان المسلمة والعراق الشقيق بذريعة محاربة الإرهاب؟ وقد ذكرت في مقال سابق أني توجست خيفة من قناة الجزيرة منذ بدء ارسالها, وكتبت مقالا بعنوان قناة الجزيرة للبلبلة أفدت فيه من دراستي للإعلام في محاولة تحليل مضمون برامجها قد أعيد التذكير بفحواه ولكن الزمن قد مر فأصبحت القناة الصغيرة المنفردة كيانا امبراطوريا متشعبا يلزم لمتابعة مضامين برامجه وأهداف رسائله جهد مؤسسات بحثية وليس جهودا فردية. فهي تستخدم أحدث وأرقي تفنيات الإعلام, وتخلط عملا صالحا بعمل غير صالح لتمرير رسائلها, وذكرت مثالا علي ذلك أنها كانت المنبر الإعلامي الأول في متابعة أحداث الثورة المصرية مما أكسبها قدرا عاليا من المصداقية لدي جمهور المشاهدين ثم انقلبت بالتدريج إلي منبر للتيار الديني المتطرف وساحة مفتوحة لرموزه طوال الوقت مع استبعاد الشباب الذين نظموا الثورة, أضف إلي ذلك متابعتها الدقيقة لكل مظاهر الانفلات الأمني في المدن والقري المصرية كبيرها وصغيرها لتوحي بانعدام الاستقرار وضرورة ظهور حاكم أو حكومة للإنقاذ لن يصعب عليك تحديد هويتها وأنت تعرف ماهية التيارات التي تروج لها. وخذ مثالا آخر لهذه التناقضات المحيرة يتعلق بالموقف من إسرائيل إذ تتصدي القناة كصوت للمقاومة ضد إسرائيل في لبنان وغزة, وفي الوقت نفسه فإن هذه القناة والدولة التي ترعاها كانت أول من فتح الباب لتسلل إسرائيل إلي الإعلام العربي, من خلال استضافة مذيعيها ومعلقيها. تظن ذلك من قبيل حرية الإعلام والرأي الآخر؟ فماذا لو نظرت له باعتباره شرخا عميقا في جدار المقاطعة العربية لإسرائيل التي رأي كثير من العرب أنا منهم انها أحد الأسلحة المتبقية لنا في الصراع ضد الصهيونية, ثم كيف تفسر هرولة قطر بعد ذلك إلي التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل وزيارات الوفود المتبادلة بين الدوحة قلعة المقاومة والصمود والتصدي وبين تل أبيب قلعة الصهيونية شيء محير! تريد مثالا ثالثا أبلغ وأدعي إلي الحيرة؟ في أيام غزو أمريكا للعراق انتفضت قناة الجزيرة في هبة قومية مضرية ضد الغزاة وراحت تطارد المتعاونين مع أمريكا, وأذكر أن أحد مذيعيها كان يحاور وزير خارجية الأردن أثناء قصف بغداد وسأله في غضب ان كانت هناك غارات جوية تنطلق من الأردن لضرب العراق, غير ان الوزير الأردني رد في هدوء كامل بأن طائرة واحدة لم تنطلق من الأردن لضرب العراق وأضاف مخاطبا المذيع انه يمكن أن يتأكد بنفسه بان يخطف رجله إلي قاعدة السيلية القريبة من مكان القناة وحيث مقر القيادة الأمريكية للعدوان علي العراق وسيخبرونه بالحقيقة, عندها بهت المذيع وأنهي المقابلة علي الفور, كان الوزير يريد أن يسأل مثلي, أنتم مع أمريكا التي توفرون علي أرضكم قاعدتها العسكرية التي تشن الحرب, أم ضد أمريكا التي تهاجمونها بالألفاظ من قناتكم؟ أم أنتم في الحقيقة ذراع أساسية للسياسة الأمريكية تخدمونها بالقواعد العسكرية وبالبرامج التليفزيونية علي السواء؟ أعتقد أن هذه هي الحقيقة التي ستثبتها المؤسسات البحثية بعد كثير من التعب! وبالمناسبة فإن الأردن إحدي الدول المستباحة لهجمات قناة الجزيرة مثلها مثل مصر. وهناك دول معصومة لا تمسها القناة إلا بالخير مثل السعودية ومنها ولا تدهش ليبيا القذافي قبل الثورة, فقد كانت شاشتها منبرا مفضلا للعقيد يشرح من خلالها دور فلسفته الخضراء فترحب به القناة بكل حفاوة, وأذكر أن مشاهدا مسكينا جرؤ في احدي هذه المقابلات علي ان يوجه نقدا هينا للعقيد في مداخلة هاتفية فانتفض المذيع الهمام أحمد منصور الذي كان يحاور العقيد وانهال غاضبا باللوم والتقريع علي المشاهد الذي صدق حكاية الرأي والرأي الآخر وطرده من البرنامج طردا غير كريم, لكن لا تنس أن الجزيرة بعد الثورة أنشأت مشكورة قناة خاصة لمهاجمة العقيد! أردت فقط التنويه إلي التناقض والتضارب في مواقف الجزيرة وتحولاتها من النقيض إلي النقيض لخدمة أغراضها. وما يعنيني في المقام الأول هو قناة الجزيرة مباشر من مصر, التي تحولت إلي حصان طروادة يحمل في جوفه المجاهدين المتسللين لغزو الدولة المدنية المصرية. وأكرر هنا ما ذكرته منذ أول مقال لي قبل عشر سنين عن هذه القناة المشبوهة وهو أن التصدي لها لا يكون عن طريق اغلاق مكاتبها أو طرد مراسليها, ففي عصر السماوات المفتوحة يفيدها هذا أكثر مما يضرها, يزيدها دعاية وانتشارا ويكسبها مصداقية لا تستحقها. التصدي الفعال يأتي من طرفنا نحن, بأن يكون إعلامنا قويا قادرا علي المنافسة وتقديم الرسائل الصحيحة لدحض الدعايات الزائفة, وثانيا بأن تنتبه الأجهزة المسئولة عن الإعلام إلي محاولات التدخل الخارجي في شئوننا السيادية وان تتخذ منها موقفا حازما, فأنا لا أعرف دولة في العالم تسمح لوسيلة إعلام أجنبية بأن تجري استفتاء بين المواطنين من أصلح مرشحي الرئاسة لحكم البلد, وهذا حتي من قبل ان يفتح باب الترشيح للرئاسة, وأذكر هنا بما ذكرته في البداية حول حقنا في إجراء استفتاء عن أصلح المرشحين من الأفراد لحكم قطر, لو جاز هذا لجاز ذاك, ولكن لنا عقولا تحكم. غير أن ما يحزنني حقا هو أنني أدرك استحالة هذا التصدي الذي ذكرته أو أي تصد آخر فنحن نعيش كما قيل بحق انفلاتا إعلاميا أخطر من الانفلات الأمني, فالكثير من وسائط إعلامنا الرسمية والخاصة تتحكم فيها عناصر من الثورة المضادة وأنصار النظام القديم وتعيث فسادا في عقول الجماهير ووجدانهم. وإذا كنت قد أفردت في هذه الكلمة قناة الجزيرة مباشر من مصر, فلأن لدينا كفايتنا من عناصر التخريب المحلية فلا ينقص أن نضيف إليها تخريبا وافدا! المزيد من مقالات بهاء طاهر