أخيرا وبعد12 يوما من المفاوضات والمناشدات من جانب الحكومة والإصرار علي التمسك بموقفه برغم تدهور صحته وفقدانه أكثر من7 كيلوجرامات من وزنه, أعلن الناشط الهندي آنا هازاري إنهاء إضرابه عن الطعام الذي سبق وأعلنه احتجاجا علي المستويات القياسية للفساد في المجتمع الهندي. في حملة استهدفت تكثيف الضغوط علي الحكومة والبرلمان, لإدخال حزمة تعديلات علي القانون المقترح بإنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد. تلك الحملة التي شهدت تأييدا واسعا من جميع شرائح المجتمع الهندي شبابا وشيوخا ومهنيين وشخصيات عامة, فأصبح هذا الرجل البسيط الذي يبلغ من العمر74 عاما, ويتخذ من الزعيم الهندي الأسطوري غاندي مثلا أعلي, الوجه المعبر عن معركة الهند ضد الفساد, بعد أن استحوذ علي مشاعر المواطنين, حتي أن بعضهم ذهب في تأييده لحملته للقول بأنها معركة الهند الثانية نحو الحرية. وهو التأييد الذي ربما يكون لعب دورا مهما ودفع في اتجاه التطورات الأخيرة باعلان أعضاء البرلمان الهندي تأييدهم لمقترحاته حول قانون مكافحة الفساد, مع تأكيدهم بضرورة أن يأتي الحل من خلال الدستور الهندي, وهو تطور مهم وان كان ذلك لا يعني انتهاء الأزمة تماما, خاصة وأن التصويت المتوقع علي هذه المقترحات لم يتم بعد. ولكن بعيدا عن هذه الأزمة وتداعياتها يظل السؤال مطروحا عن هذا الناشط, وهل ظهر فجأة؟ وكيف تمتع بتلك الشعبية المفرطة في هذه الفترة الوجيز؟ وللإجابة علي هذه الأسئلة لابد من الإشارة إلي أنه قبل عام من الآن لم يكن هازاري وجها معروفا لوسائل الإعلام الهندية أو في الأوساط والدوائر السياسية في العاصمة, فقد كان مجرد ناشط في مجال العمل الاجتماعي في قريته الواقعة بولاية ماهراشترا في غرب البلاد, حيث نجح في تنفيذ عدد من المشروعات التنموية داخل قريته لانتشالها من الفقر والجفاف, وقد ظل يعمل في مجاله الذي حقق فيه نجاحا ملموسا, حتي حصلت قريته علي لقب القرية النموذجية من البنك الدولي, وقد استمر في مجاله حتي تصدي في شهر أبريل الماضي لمناقشة قضية تفشي الفساد في دوائر حكومية عدة فأعلن إضرابا قصيرا عن الطعام حظي باهتمام جماهيري وان كان محدودا للمطالبة بقانون مشدد لمكافحة الفساد, انتهي بعد وعود حكومية بدراسة مقترحاته حول صلاحيات الهيئة المستقلة المزمع إنشاؤها لمكافحة الفساد, ثم جاء الأول من شهر أغسطس الحالي ليكتشف أن الحكومة استبعدت إخضاع رئيس الوزراء وكبار القضاة لسلطة هذه الهيئة, لتعود الأزمة لنقطة الصفر من جديد, ويعلن هازاري هذه المرة إضرابا مفتوحا عن الطعام حتي يتم قبول مقترحاته ولكن هذه المرة في ظل حضور جماهيري حاشد لآلاف من أنصاره وتغطية إعلامية متواصلة علي مدار الأربع والعشرين ساعة. ولكن الأزمة التي أوشكت علي الحل ألقت الضوء علي عدة نقاط استرعت اهتمام المراقبين والمحللين, ودفعتهم للتساؤل حول جوهر العملية الديمقراطية, ودور المجتمع المدني في القضايا المطروحة خاصة تلك التي تمس الحياة اليومية للمواطنين, والدور الذي باتت وسائل الإعلام ومواقع الانترنت تلعبه في مثل هذه الأزمات, وهل أصبح من المقبول أن يتخذ الإعلام مواقف واضحة مع طرف ضد أخر. وهنا يشير المراقبون لعدة حقائق في البداية, أولها وأهمها أن الفساد ليس ظاهرة جديدة علي المجتمع الهندي, ولكنه من فرط انتشاره خلال السنوات الاخيرة في ظل حكومة رئيس الوزراء مانموهان سينج, أصبح يهدد مكانة الهند كقوة اقتصادية صاعدة علي المستوي العالمي, بل ويهدد بإخراج التنمية في ثالث أكبر اقتصاد آسيوي عن مسارها الصحيح. ومن هنا جاءت دعوة هازاري لتصبح نقطة انطلاق وصحوة للمجتمع ككل. والأمر الثاني وهو ما أجمعت عليه الصحف الهندية أن الدعم الشعبي الكاسح لتحركات هذا الناشط وضع الحكومة في موقف حرج, فظهرت في حالة من الحيرة والتخبط, تتحرك خطوة للأمام وخطوتان للخلف, خاصة في الأيام الأولي وهو ما أعطي لهازاري اليد العليا في ادارة هذه الأزمة. والأمر الثالث أن المجتمع الهندي أصبح يعاني من حالة إحباط عام بسبب تراجع مستوي بعض الخدمات الحكومية في مجالات هامة مثل التعليم, فضلا عن ارتفاع معدلات التضخم, وهو ما عمق شعور المواطنين بالسخط, وأوضح لأي مدي انقطع التواصل بين المسئولين والمواطنين, الأمر الذي جعل من قضية الفساد موضوعا قابلا للانفجار. وهنا يكون السؤال هل وضع النقاش حول قضية مهمة مثل الفساد في إطار شروط تريد الدولة وضعها في مواجهة مجتمع مدني يضغط بمطالبه يهدد بتهميش القضية الأساسية وتحويلها لحرب فرض إرادة فريق علي الأخر, خاصة في القضايا الحيوية؟ والاجابة تأتي علي لسان المحللين الذين يرون أن الأمر يتطلب أمورا أبعد من تشديد القانون المقترح, فهي تتطلب أولا الحد من الصلاحيات اللامحدودة للوزراء والمسئولين, وتتطلب أيضا تفعيل القوانين القائمة, أي أن النخبة الحاكمة مطالبة إصلاحات, والمجتمع المدني مطالب بالمراقبة واليقظة للوصول للإصلاح المنشود. لقد أظهرت الأزمة الأخيرة وكما أكد أحد المسئولين الحكوميين أن الهند تقف في مفترق طرق, ومن ثم فاللحظة الحالية من وجهة نظر المراقبين تحتاج لرجل دولة كفء وليس لفرقاء يتقاتلون حتي النهاية, والأهم من ذلك أن هناك حاجة ماسة للتوازن الدقيق بين جميع الاطراف, وليس لمجتمع مدني يمارس نوعا من التشدد في مواجهة دولة تمارس قدرا من التسلط, وهي رؤية يتفق حولها الجميع.