التقيت خلال الأسبوعين الماضيين بعديد من رجال الفكر والسياسة العرب والأوروبيين والأمريكيين وغيرهم, وكان السؤال الذي يفرض نفسه في كل لقاء بدون تحديد أين مصر من المنظومة الاقليمية الراهنة والقادمة؟ وكان السيناريو المطروح علي موائد البحث والمناقشة شبه ثابت ويعتمد علي المحاور التالية: 1 إن القادمين الجدد في منظومة الشرق الأوسط بعد الاحلال والتبديل سيكونا إيران وتركيا, وان اسرائيل سوف يتراجع دورها نسبيا بالنظر الي توقع أن يؤدي تعالي دوريهما تركيا وإيران الي تضييق الخناق عليها, بالقضيتين الفلسطينية والجولان, فضلا عن أن ترفيع أو حتي تقليص دور الرئيس الأمريكي باراك وباما سيعكس آثارا سلبية علي الموقف الإسرائيلي, باعتباره كان ومازال عنصر الضغط السلبي علي الموقف الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط, وتحديدا من المنظور الشعبي العربي. 2 إن التنافس علي القيادة أو الزعامة الشرق أوسطية لن يصبح هو شعار المرحلة القادمة خاصة بين ايران وتركيا ذلك ان لكل منهما أجندته وتوجهاته اللتين لاتتعارضان مع بعضهما البعض.. فمعيار الهيمنة الإقليمية لم يعد له مكانا في تلك المنظومة, لأن تكاليف عملية الهيمنة لايمكن ان تتحملها الا الدول الزعامية القطبية مثل الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي في مرحلة الحرب الباردة أما الدول الساعة الي تعظيم دورها الاقليمي فهي تبحث عن المصالح المشتركة وتحاول تفعيلها. 3 ان الوزن العسكري قد يكون مطلوبا بصفة أساسية بين ايران واسرائيل, لأن المخطط الايراني للضغط علي الولاياتالمتحدة يدخل اسرائيل كمعامل تكتيكي وجيواستراتيجي, بمعني أن الضغط علي اسرائيل يمثل في ذاته معامل ضغط علي الولاياتالمتحدة.. إلا ان اسلوب الضغط يتكيف بمدي التقارب بين ايرانوالولاياتالمتحدة, وهو ماسيتحدد خلال المدي القريب والمتوسط, وكان هناك شبه اتفاق وافق عليه كاتب هذا المقال بأن المصالح الأمريكيةالإيرانية في هذه الحقبة تسير نحو التقارب وليس التفسخ, وهو ماسيدعو الولاياتالمتحدة بصفة أساسية لمحاولة رتق قماشة العلاقات الايرانيةالأمريكية,والبحث عن نقاط التقاء مشترك, تعتمد علي تفعيل التعاون في العراق وأمنها الداخلي, واحتواء تيارات الإرهاب الاقليمي والدولي ومحاولة تقليصها, وكذا تفعيل الدور الإيراني فيما يتعلق بأمن الخليج العربي بما لا يتعارض مع الأهداف الاستراتيجية الأمريكية والاقتراب من صيغة التوافق الاستراتيجي, الذي لايصل الي صيغة شرطي الخليج التي كان يتولاها شاه إيران في السبعينيات. 4 أن النمط التركي في التحرك واضح ومقبول من كل الأطراف, فتركيا لاتسعي الي التوسع الجيو استراتيجي, ولكنها تسعي للامتداد والانتشار الاقتصادي, وخلق نوع من التكامل التركي مع كل من الدول العربية علي حدة, مع عدم الممانعة في الدخول في صيغ تكاملية اقليمية, ولكن بدون حماس زائد نظرا لتيقنها بأن هذه المنطقة الشرق الأوسط تحمل من عوامل التفكيك في داخلها أكثر, مما تحمله من محددات الربط الاقليمي.. ويقوم المحدد الاستراتيجي التركي في التحرك علي فرضية ان فرص انضمامها الي الاتحاد الأوروبي قد تقلصت بصورة كبيرة, وان البديل لها هو الانتشار الشرق أوسطي, مع الحرص علي الربط بين موقعها الجديد وهدفها الأوروبي الذي تحرص علي التمسك به, فهي تتحرك بأسلوب يستند الي استراتيجية الكوبري وليس المعبر.. فهي اذا ما قويت شوكتها شرق أوسطيا فسيمكنها ان تمتد أوروبيا, ولكن بمفهوم جغرافي اقتصادي أكثر من كونه جغرافيا سياسيا واستراتيجيا, وهو ماتحرص عليه تركيا في المرحلة الحالية. 5 ان المراهنة التركية علي التحرك تعتمد علي محددات تقوم علي التقارب مع الدول العربية مع الابقاء علي هامش مؤكد من علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل خاصة في اطار الناتو علاوة علي ترحيبها بلعب دور الوسيط بين إسرائيل وسوريا, وغزة ولكن بحذر شديد حتي لاتؤثر علي علاقاتها مع مصر, كما تسعي الي الانتشار خليجيا, مع تقدير الكثير من المحللين السياسيين والاقتصاديين بأن فرصة تركيا في هذا المجال تعتمد علي عنصر الزمن: فهي مطالبة بأن تخطو خطوات سريعة قبل نجاح إسرائيل في تخطي عقبة التطبيع مع الدول العربية, وقبل تحقيق نجاحات في العلاقات الإيرانيةالأمريكية.. كما أن تركيا تقدر ان المنافسة الآسيوية في سوق الخليج سوف تكون عائقا في سبيل الامتداد التجاري والاقتصادي التركي الخليجي, مما يرجح التركيز علي المعامل البترولية والطاقة والمياه كمجالات أساسية. وكان السؤال الذي يفرض نفسه في كل لقاء: ماهو الدور المصري الاقليمي القادم؟ وعلام سيركز لتأكيد وجوده: فهل سيكون المعيار سياسيا أم عروبيا أم ثقافيا؟ أم الاعتماد علي معيار الدولة العربية الأنموذج, وهو الدور الذي لعبته مصر في الحقبة الملكية والثورية حتي عام1967 ؟ وهل سيمكن لمصر بالتعاون مع السودان ودول الخليج ان تتهدف خلق مستودع للامداد الاستراتيجي العربي للغذاء؟ وهل التفسخ الذي سيطرأ علي العراق والسودان سيخلق حالة من تفشي الطائفية في منطقة الشرق الأوسط, لتلقي بظلالها علي وضع مصر الجيوبوليتيكي؟ أم أن مصر ستكتفي بالتركيز علي التنمية الداخلية, ولا تركز علي المعامل العربي في تخطيطها للمستقبل المصري, والذي لن يستهدف الدخول في معادلة التوازن الاستراتيجي الإقليمي؟ فمصر لايمكنها ان تقبل تهميش دورها العربي أو الاقليمي, في ذات الوقت الذي لايمكن لمصر ان تنافس علي الابقاء علي وزن مصر العربي ومن ثم الاقليمي وفقا لطموحنا المشروع, فمصر كانت تعتمد علي فرضيات تنافسها فيها حاليا تركيا: مثل وضعها كدولة عربية معتدلة, فضلا عن أن تركيا تلعب دورا مهما باعتبارها وسيطا مقبولا من اطراف النزاع العربي الاسرائيلي, علاوج علي قدرة تركيا علي خلق مصالح مشتركة من وضع القوة وخير مثال لهذا هو تنمية المشاريع المشتركة التركية المصرية والتي تصب في صالح تركيا وربما جاءت زيارة وزير الخارجية التركة المقبلة, لترؤس اللجنة الاستراتيجية المشتركة, لتوضح آفاق التعاون المشترك التي تعول عليها مصر وتركيا والتي قد حددت مسارها فعليا لخلق مصالح استراتيجية مشتركة. علاوة علي ماتقدم فإن قدرة مصر علي تجميع الارادة العربية المشتركة صعبة التحقيق, في ظل تردي الوضع العربي, وتفسخ النسيج العربي, وعدم وجود تخطيط مشترك لمستقبل عربي واعد, والأهم من هذا محاولة تهميش الدور المصري في اطار الخلافات العربية حتي في السودان. ولا أجد أمامي طرحا موضوعيا استند عليه مرحليا لدور مصري اقليمي, سوي الاعتماد علي طرح سيناريو مصر كدولة عربية مع التركيز علي البعد الثقافي العربي والذي لايمكن لأي من الدول الأخري المنافسة عليه التركية والفارسية والعبرية مع الحرص علي التعاون المصري السوداني المصري الغذائي لإيجاد مصالح إقليمية مصرية عربية مشتركة. المزيد من مقالات محمود شكري