يلتزم السياسيون والإعلاميون المنتمون إلي اليمين الأمريكي بمقولات واحدة في التعامل مع الثورات الشعبية العربية, ومن اليوم الأول للثورة المصرية يرددون أن بدايات الثورات الكبري لاتؤدي بالضرورة إلي النهايات المرجوة من تحقيق للديمقراطية وإنتصار للعدالة الإجتماعية وأن انتصار القوي المتشددة مسألة حتمية في الشرق الأوسط في ظل ظروفه الحالية. وقد استدعت محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك كل تراث اليمين الأمريكي بالإيحاء أن المحاكمة ربما ينقصها شروط العدالة واللعب علي وتر أن ظهور مبارك وإبنيه في قفص المحكمة هو نوع من الإذلال السياسي والبربرية والوحشية وجاءت عناوين صحف ومواقع الكترونية شهيرة معبرة عن التوجه المشار إليه ومنها صحيفة وول ستريت جورنال التي أوحت من العناوين والصور المنشورة أن شيئا ما خاطئا يعتري المحاكمة الغير مسبوقة في بلد مثل مصر ونقلت عن محلل سياسي قوله ليس هذا بالشئ الذي يحدث في مصر, فالأهرامات تشيد للفراعين هناك, لا أن يقدموا للمحاكمة علي الهواء مباشرة علي شاشات التليفزيون وهو قول يحمل إفتئاتا علي الثورة الشعبية التي أطاحت فيها كل فئات الشعب المصري برأس النظام وأركانه بعد ملحمة18يوما ينتقل صداها الإيجابي بالتقليد والإتباع في مناطق عديدة من العالم بما فيها المجتمعات الغربية نفسها وهو أيضا مأزق حضاري قبل أن يكون سياسيا للكثيرين بين القوي المتشددة في الولاياتالمتحدة ودول غربية أخري. وقد إجتهدت صحفية في واشنطن بوست للوصول إلي ما تحمله قصة قفص المحكمة من دلالة تجاه حاكم سابق وإكتشفت أن مصر ليست الدولة الأولي التي تقدم علي تلك الخطوة بل سبقتها دول عدة منها روسياوالولاياتالمتحدة نفسها في مناسبات عدة غير أن الإعتراض يأتي من وضع المتهمين في القفص قبل ثبوت إدانتهم بما فعلوا! وقد جاءت تعليقات القراء متباينة لكنها عكست أراء جديرة بالإعتبار منها أن قواعد وأشكال عقد المحاكمات في أمريكا ليست بالضرورة ملزمة لبلدان أخري وأن وجود القفص الحديدي ليس بالضرورة إهانة للمتهمين ولكنه يوفر حماية نظرا لما إقترفه هؤلاء في حق شعبهم. والسؤال: ما هي خلفيات مواقف اليمين الأمريكي والمتجسدة بوضوح في وسائل إعلامه؟ تقدم معالجة محاكمة الرئيس المخلوع صورة أوسع لمواقف اليمين الأمريكي من تحولات الشرق الأوسط. فقد سعي التيار المحافظ طوال عقدين من الزمن علي ربط التحولات في العالم العربي بما تنتجه عقول الفكر المحافظ التقليدي في الغرب- من جورج بوش الأب في الأيام التي تلت سقوط المعسكر الشرقي إلي جورج بوش الإبن بعد حوادث11 سبتمبر وبدء موجة من العمليات العسكرية الغير مسبوقة في الشرق الأوسط- وبالتالي لم تكن الشعارات المرفوعة عن مساندة التحول الديمقراطي في بعض البلدان سوي عملية مشروطة بقدرة الهيمنة العسكرية الأمريكية علي هندسة الأوضاع الداخلية عن طريق الغزو, مثلما حدث في حالة العراق أو الضغط من أجل إصلاحات سياسية وإجتماعية وإقتصادية في المجتمعات التقليدية بالمنطقة بما يتوافق مع بقاء الروابط الإستراتيجية مع القوي الغربية وعلي رأسها الولاياتالمتحدة. ما يلفت في تعليق الصحف الأمريكية التي أنكرت علي المصريين إنجاز العدالة وتقديم أول رئيس أو زعيم في تاريخهم لمحاكمة يتوافر لها معايير الحياد والشفافية من الجلسة الأولي التي بثتها محطات التليفزيون في العالم كله أن وسائل الإعلام اليمينية نفسها هي التي إحتفت في السابق بسرعة محاكمة ثم تنفيد حكم الإعدام في ديكتاتور العراق صدام حسين قبل سنوات رغم عدم قانونية المحاكمة وأن السلطات الأمريكية في عهد الرئيس الجمهوري المحافظ جورج بوش هي التي قدمته إلي المحكمة العراقية بعد أن ألقت عليه القبض في حفرة بشكل مهين واليوم يتناقض الموقف ويصبح إعمال العدالة عملا غير إنساني بالمرة! وقد دأب المعلق السياسي اليميني الشهير جلين بيك في محطة فوكس نيوز-المملوكة لإمبراطور الإعلام الإسترالي روبرت ميردوخ مثل وول ستريت جورنال- من اليوم الأول للثورة المصرية علي التحذير من الإنتفاضة المصرية من خلال التأكيد مرارا وتكرارا علي ما سماه بحقائق سوف تسفر عنها الثورة المصرية وأهمها بعث النموذج الإيراني في قلب العالم العربي وإقامة دولة الخلافة الإسلامية من القاهرة وتهديد المصالح الأمريكية ووجود إسرائيل وهي المقولات التي تصادف هوي لدي الكثيرين من متابعي البرامج الحوارية في شبكات الأخبار الأمريكية- وليس بالضرورة جموع الشعب الأمريكي الذي تعير شرائح ضيقة منه الإهتمام بنشرات الأخبار وحوارات السياسة والنقاشات حول السياسة الخارجية. ويكمل المحللون والسياسيون في اليمين المحافظ عملية الترهيب من تطورات الربيع العربي من منطلق أيديولوجي وهو استمرار صراعه مع تيار الليبرالية في السياسة الأمريكية نفسها. فاليوم, المكاسب التي ستعود علي الرئيس الأمريكي باراك أوباما من مساندة عملية إنتقال سياسي ناجح في بلد كبير مثل مصر يعني إنتقاصا من مواقف اليمين الأمريكي التي روجت في الأوساط السياسية طويلا أن عدم نضج المجتمعات العربية يستلزم تدخلا أمريكيا وغربيا لفرض نماذج التحول الديمقراطي وبناء النظم السياسية في المجتمعات الواقعة تحت السيطرة المباشرة. ويتعمق الشعور بقدرة أوباما علي استخدام مكاسب الربيع العربي مع إقتراب موسم الإنتخابات الرئاسية في العام المقبل وهي جولة ستكون شديدة الشراسة في الحرب العقائدية بين المعسكرين وفي مسيرة الجمهوريين والمحافظين لإثبات أن العالم علي طريقة أوباما ليس هو الأفضل للمصالح الأمريكية وكلما تعثرت خطوات السياسة الأمريكية في ليبيا وسوريا واليمن كلما كان الإستخدام السياسي لتلك المواقف جليا في الحملات الإنتخابية وفي الميديا الأمريكية. وفي ضوء التحليل السابق, يمكن أن يصبح الوضع في مصر مادة للتراشق الإعلامي في الشهور التي تسبق الإنتخابات في نوفمبر من العام المقبل. ففي حالة ظهور حكومة إئتلافية تضم أحزابا دينية أو في حال تعثر عملية التحول الديمقراطي لأي سبب في الفترة المقبلة سوف يجد اليمين سببا للهجوم علي الإدارة الديمقراطية في غمار الحملة الإنتخابية المقبلة بإعتبار أن الحالتين سوف تشكلان تهديدا للمصلحة الأمريكية في المنطقة بعد أن فقدت واشنطن حليفا غاليا نتيجة ثورة شعبية جارفة ساندتها ادارة أوباما بعد أيام قليلة من إنطلاقها دون أن تمهل الحليف المخلوع فرصة كافية لإحتواء الموقف المتفجر- من وجهة نظر التيار المحافظ. وقد سخرت راشل مادو المعلقة السياسية الشهيرة في شبكة سي بي اس من ازدواجية أحكام اليمين الأمريكي وقالت لو كانت الثورة المصرية جاءت مبكرة عامين لزعم اليمين أنها نتيجة حرب العراق وجهود الرئيس جورج بوش. والعامل الأخر بالتأكيد هو مصالح الحليف الإسرائيلي التي تغلف كل نقاشات التيار اليميني التي باتت لا تأمن من تحولات السياسة المصرية. ونقد اليمين الأمريكي لا يعني أن التيارات الليبرالية علي النقيض من المقولات السابقة تماما, فهناك كتاب وسياسيون في اليسار الليبرالي يشاركون التيار المحافظ في بعض ثوابت التفكير بشأن الشرق الأوسط خاصة فرص التحول الديمقراطي الرشيد وهو في نهاية المطاف محصلة للنظرة الإستشراقية للمنطقة التي مازالت تحكم تفكير غالبية المثقفين والمفكرين. في النهاية, مواقف اليمين الأمريكي تعبر عن ثوابت واضحة في التفكير المحافظ وتستدعي-علي الدوام- اختلافات وفجوات واسعة وكثير منها يتصيد أشياء تعمق خلاف الرؤي وهي فخاخ منصوبة من أطراف عدة في طريق الثورة!