لعاطف عبدالعزيز مشوار مع البساطة, هو يكتب الشعر خاما, أي خاليا من التكلف, كأن القصيدة تكتب نفسها, ودوره أن يحررها من مخيلته, علي أن وراء بساطته هذه شركا, فانتبه إن شعره يلتقط الأشياء العادية, الملقاة علي قارعة الطريق, ويكتبها ببساطة, بألفاظ مأخوذة من فم الشارع, حتي إذا قرأه الجاهل ظن أنه يحسن مثله, علي رأي ابن المقفع, لكن وراء القصيدة ما وراءها من تعب. وفي ديوانه الجديد ما تنتظره لن يمر من هنا, الصادر منذ أيام عن دار ميريت يستخدم عبدالعزيز مكره منذ البداية, فالعنوان, باستخدام ضمير المخاطب, يجعل من الانتظار حالة مزمنة لا تخصه هو أو أيا من أشخاصه فحسب, بل تخصنا جميعا, وبنفي أن يمر ما ننتظره من جهة معلومة لنا, يتحول الانتظار الي مشكلة وجودية, طالما كابدها الإنسان وانفطر لها قلبه في كل العصور! ثم إننا لا نعرف ما الذي ننتظره أصلا. ملحوظة: عنوان الديوان لا يرد في أي قصيدة, اسما لها, أو عبارة فيها. في الديوان ثلاث جدائل تتبادل الالتفاف علي بعضها: الماضي, والحاضر الذي يؤشر الي المستقبل ويكاد يختزله في مخاوف الذات الشاعرة من مخدع المراهقة, وبينهما دعاء الأم, الحجاب الذي يضعه الشاعر تحت إبطه ويتقي به المجهول. الماضي, أو السفينة الغارقة التي انحسر عنها الماء, بتعبير عاطف, هو ليس الأيام التي تولت ولن يكون بوسعنا استعادتها, بل هو القمة التي تلوح من بعيد, قمة جبل الثلج المطمور تحت المياه, وعاطف لا يعمل علي الاصطدام بهذه القمة, فقط لا يتركها تغيب عنه, ويستعملها بوصلة باتجاه الآتي. كلنا نتأسي علي الماضي بحلوه ومره, لا لشيء, إلا لأنه أصبح خلف ظهورنا! غير أن عاطف يجعل ماضيه أمامه, ليكتبه, وهل الشعر شيء آخر غير الماضي الذي يندلع فجأة في قلوبنا. يقول عاطف, مستدعيا الماضي كله بشهقة واحدة صبية كانت الشهقة/ حتي إنها استردت في لمحة طريقكما الي المدرسة/ استردت الأشكال التي رسمتماها معا علي الأسوار/ والفراشات التي اختنقت بين الأنامل الصغيرة ومكامن الطفولة تحت الأسرة/ أو في الدواليب/ واليد التي مسدتك/ فارتعش برعمك في الظلام.. انتبه لعلك مشيت بعيدا بما يكفي أن تكون غيرك/ فخذ إذن بأصابع الجميلة التي أرهقها الوقت/ واعبر بها الدرج المحطم/ الأصابع التي أطلقت عفاريتك ذات يوم/ ثم لم ترجع إليك. غير أن أهم ما تستعيده هذه الشهقة هو تجارب الجسد, التجارب التي ثقبته وتحولت, مع الوقت, إلي رماد, الأمر الذي تحاول الذات تكذيبه, أو, علي الأقل, بعث الحياة فيه عبر التذكر والتكابة. هذا الماضي ينتصب الآن في البيت روحا عابثة تهيم في المكان, فينقلب الشعور من حنين للماضي الي خوف منه, لأن الذات التي كانت, فيما مضي, فردا يترك نفسه للحب, أصبحت أبا يخشي القصاص من ابنته المراهقة التي لم تأكل شيئا من يومين ويسمع أناتها تأتيه بالليل, حزنا علي موت ابن الجيران الذي علقت به هنا, مع حتمية وقوع كل منا في التجربة, لا يصبح الحاضر عقابا علي الماضي فحسب, بل حيوانا جريحا يتنفس علي مقربة, لتقع الذات بين شقي الرحي ولا ينقذها من هذه الثنائية سوي رقي الأم, بما للأم من دلال علي السماء, فالشاعر ما زال محصنا بدعاء هذه الأم ووصاياها, وسبق أن دست في جيبه تميمة وأوصته بألا ينسي ذكر الله, مذكرة إياه بما لديهم من بنات في الأسرة يحتجن إلي الستر السؤال: هل يكون المستقبل رحيما, أم شيئا مرهوبا لا ننتظر مروره من هنا ليست عندي ولا عند أحد إجابة. هل قلت إن القصيدة إذ تدخل الأحراش, إنما تدخل في الحقيقة المناطق المأهولة بالشعر وعاطف قد درب قصيدته طويلا علي أن تشي, لا أن تقول أن تئن بصوت كتوم, لا أن تصرخ, وهذه القصيدة تعرف أين وكيف تلج أكثر المناطق حساسية دون أن تدمي, أو تترك خلفها نقطة دم, علي أن الأهم ليس ما يقوله الشاعر, بل كيف يقوله. وأظن أن فضيلة عاطف, قبل أي شيء آخر, هي أنه يؤمن, مع أكزوبري, بأن الكمال يبدأ عندما لا يعود لديك شيء تحذفه. قصيدة عاطف, يا أصدقائي الشعراء, بريئة من الرغي وهي لذلك حجر زاوية في المشهد الشعري, بل أقرب ما تكون الي طوق نجاة من الغربان التي تعشش فيه.