ودع المصريون عبد الناصر بالملايين, وأغتالوا السادات وهو يحتفل بعيد انتصاره, وها هم الآن يحاكمون الطاغية, لله درك يا مصر.. إي جبروت وأي عظمة. كان عبد الناصر الزعيم الذي آمن المصريين بصدقه, وتلمسوا ما يحمله قلبه من حب عميق لوطنه, للفقراء فيه النصيب الأكبر من مشروعه التنموي, وبرنامجه الاجتماعي والسياسي, لكنه أيضا كان القائد الذي قادهم إلي هزيمة1967, ورغم ذلك شرعوا معه يستعيدون شرف الوطن وكرامته. لم يغفر المصريون لعبد الناصر الديكتاتور الكامن في شخصه, ومنذ الهزيمة وخلال السنوات الأربع التالية شنت الحركة الطلابية والعمالية مظاهرات متواصلة تطالب بحساب المقصريين في حقوق الوطن وأرضه, وعكف عبد الناصر والمصريون وقادة عظام في العسكرية المصرية علي إعادة بناء الجيش دون أن يتوقف القتال وتصمت المدافع علي جبهة قناة السويس, وحولت مجموعات الصاعقة وكتائب الجيش والبحرية سيناء والمتوسط إلي جبهة مشتعلة, وكان بناء حائط الصواريخ صراعا فريدا انتهي بتمكن سلاح الدفاع الجوي المصري المهضوم حقه في تاريخ العسكرية المصرية بإبطال وشل فاعلية الطيران الإسرائيلي وتأمين الطريق لتوفير غطاء جوي لمعركة التحرير. بعد محاولته انقاذ ما يمكن انقاذه من المقاومة الفلسطينية وافته المنية, ورحل عبد الناصر عظيما كما عاش عظيما كان هناك إجماع بين المصريين وبين شعوب الأمة العربية علي حبه واحترامه, فقد عولوا عليه أحلامهم لبلوغ ذري المجد والوحدة, والرقي لمصاف الدول الكبري, وخرج في وداعه الملايين في شوارع القاهرة ودمشق وبغداد والخرطوم وصنعاء وعدن والكويت وبيروت, كانوا يبكون فيه طهارة اليد ونقاء القلب وحلم الثورة والوحدة العربية, وحلم الدولة المصرية والعربية القوية اللذين ابتلعتهما رمال الصحراء. عندما تولي السادات الرئيس الثاني من الجمهورية الأولي خلافة عبد الناصر لوح إلي المصريين بحلم الديمقراطية, وترقب المصريون حرب التحرير. وظلت الحركة الطلابية والعمالية وجماهير الشعب تخوض كفاحا من أجل خوض حرب تحرير شعبية والديمقراطية, وكان الصراع عنيفا, فالسادات لم يكن يثق بجيشه, كما كان عبد الناصر يثق, وقامر علي أن يكون بديلا لدي الولاياتالمتحدة عن إسرائيل وكان واهما, وعرض مبادرات سلام واحدة وراء أخري دون جدوي, وفي النهاية كان يجب عليه أن يقدم تفسيرا عن حالة السلم واللاحرب ولم يفعل, وتحت ضغوط شعبية عارمة; حركة في الشارع تطالب بالحرب, ونصف مليون جندي وضابط يتوقون لتحرير الوطن, اضطر في أكتوبر لخوض حرب حاول أن يتفاداها, الآن يجب أن يعود التاريخ لتصحيح كتابة أوراقه. الشعب والعسكرية المصرية هما من دفع السادات للحرب, والذي دأب وأتباعه علي أن ينسبوها مرة لخبثه, ومرة لذكائه, ومرة لمخالبه. مع نهاية حرب أكتوبر فقد عبد الناصر مكانته الأسيرة في قلوب المصريين, وبقيت له صورة الديكتاتور, وحلت محلها ديمقراطية السادات, وبرنامجه للانفتاح الاقتصادي. واستبشر كثيرون خيرا, أما الفلاحون وهم الأكثرية كما وثقافة بين المصريين, فقد قبلوا ببرجماتية سلام السادات واتفاقيات كامب دافيد, بعد أن حسبوا الأمر بعملية فلاح يذهب إلي فرشته الخشنة ليلا ولا يأخذه النوم, قبل أن يحدد ما هو فاعل في الصباح مع ألاعيب السلطة وسياط المماليك, وبنك التسليف, وموظفي الجمعية التعاونية, كي يحصل علي التقاوي والكيماوي, وأن ينتهي قبل الغروب من حرث غيطه وسقي زرعه قبل أن ينفد دور المياه, وتعصف الدودة بمحصوله. لهذا تجاهل الفلاحون خرف زعماء وملوك عرب عن حروب لا يشاركون فيها, إلا بالخطب وبعض من المال وبعض من الخيانة, وكثير من الشماتة, وأسلحة حديثة ضخمة مكدسة في مخازن يأكلها الصدأ. كما لم يلق بالا لخرف نخبته الثقافية والسياسية التي اكتفت بالرفض والشجب والهرب إلي عواصم عربية مثلها مثلهم عجز وطلب علي السلطة, وسط انفلات متواصل في التوازن العسكري لصالح العدو. لهذا قبل المصريون السير وراء السادات في طريق السلام. بينما رفضته بعض من نخب سياسية, باعت رفضها لأنظمة قومية قمعية تتهاوي الآن تحت ضربات شعوبها. لكن الانفتاح كان فسادا, والديمقراطية قبضة للدولة الاستبدادية, وعندما أغتيل السادات لم يبكه أحد, حتي من حلموا بالثراء في عصره, وشيع إلي مثواه وحيدا, يحيط به قلة من أصدقائه; جيمي كارتر, هنري كسينجر, مناحم بيجن, واختارت السيدة زوجته أن يدفن في قبر الجندي المجهول, كي لا يبرح ذاكرة المصريين, لكنه مع مرور الأعوام تحول مثل القبر الذي دفن فيه مجهولا. ولا محل للحديث عن الرئيس الثالث للجمهورية الأولي, سوي أن عهده صار الخراب الكبير, والفساد الذي لا سقف له, وفتنا طائفية, وشللا سياسيا, وتنفيذ مخططات اسرائيلية, واتساع الصراع علي منابع النيل شريان الحياة للمصريين. تحت قناع أنه لا يألو جهدا في سبيل الفقراء والله والوطن. وفي سبيل توريث مصر لابنه الفتي المدلل, أنشأ دولة بوليسية قمعية لا حدود لسلطاتها, ولا لعمليات انتهاك حقوق الانسان المصري وكرامته. في العام الأربعين من وداع عبد الناصر. بورود المحبة والغفران, والثلاثين من اغتيال الرئيس الثاني, وضع شباب ثورة25 يناير رئيس جمهوريتهم الثالث في قفص الاتهام, دون أن يجدوا غضاضة في أن يطلبوا له بتحضر رفيع محاكمة عادلة. ما هذا؟ وعن أي قيم انسانية عظمي يعبر؟ ما هذا؟ عن أي شعب نتحدث؟ أهذا هو الشعب الذي اهتزت ثقة البعض فيه؟ وتواطأت غالبية النخب السياسية والثقافية مع النظام القديم ضد هذا الشعب النبيل, وضد شباب يقطر ببراءة الملائكة؟ وسمو وكبرياء الفراعين. ومن هو هذا الشباب؟ ومن أين جاء ومتي ولد؟ في أي مدرسة تعلم؟ وفي أي المعاهد السياسية حصلوا علي إجازات تخرجهم؟ وفي خضم أي الثورات العظمي غيرت وجه التاريخ اكتسبوا حنكتهم السياسية؟ وتركوا مقاصل الجيلوتين جانبا, واختاروا التمسك بفضيلة القضاء المصري العظيم.. لغز والله ما نراه وما نشهده.. فقط أيها النيل أنت نهر من السماء تنبع من تحت سدرة المنتهي, ومنذ آلاف السنين تشق طريقك آلاف الأميال إلي شعب الجنة الذين اسلم الله لهم أسرار الحياة كي ينقلوها إلي العالمين.. المجد لك أيها الشعب العظيم.. المزيد من مقالات فتحى امبابى