كتب - هاني عسل: مثلما لا ينبغي لمباديء حقوق الإنسان العالمية أن تكون مبررا لفرض قيم وأفكار' معولمة' لا تتناسب مع طبائع الشعوب وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها. فإنه لا ينبغي في الوقت نفسه أن تكون' الظروف الخاصة' و'القيم والمعتقدات والتقاليد' حججا واهية للتهرب من احترام حقوق الإنسان. في البداية يجب الاعتراف بأنه مهما كانت دقة الصياغة ووضوح العبارات التي صيغت بها المواد الثلاثون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر يوم10 ديسمبر1948 في قصر' شايو' بالعاصمة الفرنسية باريس برعاية الأممالمتحدة, فإن كثيرا من الكلمات والجمل الواردة في هذا الإعلان لا تتعرض فقط للانتهاك اليومي من قبل دول متقدمة أو نامية, ديمقراطية أو شمولية, وإنما تواجه أيضا إشكالية اختلاف التفسيرات وتناقض المفاهيم بين دولة وأخري, أو بين ثقافة وأخري. قد تثير هذه الإشكالية كثيرا من الشكوك في أن بعضا من الدول التي شاركت في إصدار هذا الإعلان تبدو وكأنها لم تقرأ نصوصه جيدا قبل إصداره, في حين أن الحقيقة والتاريخ يؤكدان أن الجميع شارك في إصدار الإعلان, وبموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة, وبحرية تامة, وأن الإعلان يحتوي بالفعل علي المباديء الأساسية والقيم التي يجب أن تتبعها الدول والمجتمعات المختلفة لحماية حقوق وكرامة الإنسان في شتي أنحاء العالم, وهو ما يعني أن التطبيق العملي لهذه المباديء هو الذي أفرز هذه الاختلافات في الفهم والتطبيق. المشكلة الحالية ليست في الدول التي تفهم وتقتنع بمواد الإعلان وتنتهكه وفقا لظروف معينة( مثل حالات كثيرة علي صلة بالحرب علي الإرهاب ومعتقل جوانتانامو) وإنما المشكلة الحقيقية التي تحتاج إلي دراسة تكمن في الدول التي لا تستطيع تطبيق نصوص الإعلان بالكامل لتعارضها مع أفكار ومعتقدات وتقاليد راسخة, وربما قوانين أيضا, خاصة بها لا يمكن التخلي عنها بأي حال من الأحوال. قد يقول البعض إن مباديء حقوق الإنسان لا يختلف عليها اثنان, ويجب أن تسري علي الجميع, ومن يخالفها يحاسب, ولكن هذا غير واقعي, لأن هناك من الموروثات الثقافية والدينية والاجتماعية ما يحظي باهتمام وتقدير أكبر من الشعوب من أي وثيقة أخري مهما بلغت أهميتها, ولا يبدو أي مجتمع مستعدا علي الإطلاق مهما كان الثمن لإجراء تبديل أو تعديل أو حذف أو إضافة إلي أي من هذه الموروثات أو المعتقدات من أجل الالتزام بالتطبيق الكامل لإعلان حقوق الإنسان. هذا ما يتضح تماما في مواقف دول مثل مصر أو السعودية أو غيرهما من الدول العربية والإسلامية من قضية المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة, فالمادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقول في جزء منها:' لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان, دون أي تمييز, كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر, أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر, دون أية تفرقة بين الرجال والنساء', بينما التطبيق الكامل لهذه المادة يتطلب إلغاء أو تعطيل النصوص الدينية التي تخالف ما جاء في الإعلان, وهو أمر لن يحدث علي الإطلاق بطبيعة الحال, حتي وإن ارتبط الأمر بضغوط أو عقوبات خارجية, ليس لأن المساواة مرفوضة, وإنما المرفوض هو التفسير الليبرالي المطلق لهذه المساواة. والسبيل الوحيد هنا هو أن يكون دور المجالس أو المنظمات الأهلية لحقوق الإنسان هو تقريب وجهات النظر مع المجلس العالمي لحقوق الإنسان, والعمل علي توضيح الخصوصيات الدينية والثقافية فيما يتصل ببعض النقاط موضع الخلاف في الإعلام العالمي حتي لا يصبح إعلانا' أعمي' بعيدا عن أرض الواقع في كثير من الدول. وإذا كان من الغريب أن الإعلان نفسه صدر دون أن يكون المجتمع الدولي علي علم كاف بهذه الخصوصيات, وهي كثيرة وليست في حالة حقوق المرأة فقط, فإن الوضع الراهن يلزم الأطراف المختلفة بالتحاور مع بعضها البعض في محاولة للاتفاق علي صيغ تضمن عدم انتهاك الأديان والمعتقدات والثقافات والخصوصيات وفي الوقت نفسه تضمن تحويل الإعلان إلي مواد قابلة للتطبيق وتحظي باحترام الجميع. والأمر نفسه ينطبق علي المادة ال16 وما تنص عليه من حقوق متساوية عند الزواج, فهي تقول:' للرجل والمرأة متي بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين, ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله...', فهذه العبارة فضفاضة تماما في الشطر الأخير منها وتحمل ملايين المعاني والتفسيرات, وربما تبدو من حيث المبدأ متعارضة مع شرائع ومعتقدات عديدة. والأمر نفسه ينطبق علي المادة ال19 التي تنص علي أنه' لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير, ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل, واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية'.... فماذا إذا تبني فرد ما أفكارا متطرفة تدعو إلي القضاء علي الآخر مثلا؟ هل ينطبق عليه مبدأ الحق في حرية التعبير؟! وهل يسري الأمر علي من يزدري الأديان مثلا أو يخالف قوانين العقوبات؟! فالمعايير التي تؤمن بها مجتمعات في أوروبا وأمريكا الشمالية بشأن مفاهيم الحريات الفردية والعلاقة بين الجنسين وحقوق الأقليات ليست هي نفسها المعايير التي تؤمن بها مجتمعات كثيرة في إفريقيا وآسيا مثلا. وأخيرا, فإنه يجب ألا تنتهك الدول حقوق الإنسان بحجة هذه الاختلافات, ولكن في الوقت نفسه, يجب علي المجتمع الدولي أن يكون أكثر فطنة في التعامل مع وسائل تطبيق هذه المباديء, وأن تتسم هذه الوسائل بالمرونة اللازمة, حتي لا تصبح هي الأخري مجرد' كليشيهات' يرددها' مهاويس' العولمة دون وعي, فتتحول إلي صورة قبيحة من صور النظام الدولي الجديد ووسيلة لتحقيق أغراض ومصالح سياسية. الخلاصة أنه يجب أن يصبح اختلاف المفاهيم الحقوقية' نعمة' علي البشرية ونقطة قوة في مصلحة إعلان حقوق الإنسان, لا نقمة علي بني البشر! [email protected]