نعم البلطجية منا وعلينا, فهم منا لأنهم جزء من شعب مصر, شئنا أم أبينا, كما أنهم علينا, أي أن لهم علينا حقا, بل حقوق, وحتي نحدد المشكلة بمزيد من الدقة فلنسأل أنفسنا من هو البلطجي؟ البلطجي لا يولد بلطجيا, كما أن البلطجة ليست مرضا وراثيا يتوارثه الأبناء عن الآباء, إنما البلطجي هو شخص لم يلق من المجتمع أي اهتمام, بل ربما قوبل بالنبذ والتهميش, انه شخص لم يحصل علي أي من حقوقه الأساسية المتمثلة في التعليم والعمل والمسكن الملائم والمساواة أمام القانون, انه لم يحصل علي قسط واف من التعليم, أو ربما لم يحصل علي أي نوع من التعليم, فأصبح لا يعلم حقوقه علي المجتمع وواجبات المجتمع عليه, وأصبح له منظومة قيم خاصة به تختلف عن منظومة القيم السائدة في المجتمع, ولم توفر له الدولة العمل, فهي لا توفره لحاملي الشهادات المتوسطة والعليا فما بالك بأناس غير متعلمين, كما أنها لم توفر له مسكنا ملائما فراح يسكن مناطق وأحياء هي أقرب للأوكار منها للمنازل. إن من يعيش في هذه الظروف وليس له مهنة ولا يحسن عملا, وربما لا يجد العمل أساسا, ما عساه يفعل ليحصل علي لقمة العيش؟ كيف يمكننا بعد هذا كله أن نتوقع ان يخرج من هؤلاء الأفراد مواطنون أسوياء! وماذا يمكننا أن ننتظر من أناس حرموا من كل حقوقهم؟ لا يمكن ان نتوقع منهم سوي الحقد علي المجتمع وسلوك كل ضروب الفساد والرذيلة واستباحة دم الآخر وماله وعرضه. وليس أطفال الشوارع, كما درجنا علي تسميتهم إلا وصمة عار في جبين المجتمع المصري بأسره, فما كان لهذه الظاهرة ان تأخذ هذا الحجم الضخم لو كان لدينا بعض الآليات للتعامل معها, وكان في قلوبنا بعض الرحمة, لكننا آثرنا ان نغمض أعيننا عما قد يؤرقنا ويكلفنا المال والجهد واتبعنا سلوك النعام عند استشعار الخطر. والآن, ماذا نفعل لمواجهة ظاهرة البلطجة المستشرية؟ لا مناص من أن تواجه الدولة نواقصها واخفاقاتها وان تصحح الوضع, فلا يمكن ان تقوم مصر الجديدة علي أسس سليمة إذا استبعدنا ونبذنا الملايين من المجتمع باعتبارهم بلطجية وأطفال شوارع, علينا أن نبدأ من الان بدعوة جميع هؤلاء الاشخاص الي التوجه الي الدوائر المسئولة في الدولة لحصرهم وإعادة تأهيلهم وضمهم الي حضن الدولة واعادة دمجهم في المجتمع حتي يتحولوا الي اشخاص منتجين, ولا ريب أن منهم الكثيرين الذين لا ينتظرون من الدولة إلا ذلك, وكيف لا وهم حرموا من الطعام والحنان ودفء الأسرة, وتقطعت بهم الأسباب والآمال فلم يجدوا دون البلطجة سبيلا. إن هذه المشكلة خطر دائم محدق بالمجتمع ولا سبيل الي معالجتها الا بمواجهتها, ولا يمكن للدولة ان تواجهها بمفردها, ولذا فعلي المجتمع المدني والمؤسسات والجمعيات الخيرية أن تأخذ هذه المشكلة علي عاتقها, ولعل الأوضاع السائدة حاليا في البلد من عدم استقرار وانفلات أمني تتيح الفرصة لمناقشة المشكلة وشحذ الهمم وحشد الجهود وتعبئة الموارد لمواجهة هذا الخطر الملم. لابد ان تعيد الدولة تأهيل هؤلاء الملايين وتوفر لهم الحد الأدني للعيش بكرامة. إن العلاج العقابي وحده لن يكفي للقضاء علي الظاهرة من جذورها, ولكن يتعين ان يقترن هذا العلاج بعلاج اجتماعي إنساني, ليس من أجل أن نأمن شر هؤلاء فحسب, لكن لكي نستطيع ان ننظر في المرآة دون أن نشعر بالخجل من أنفسنا وإن كلفنا هذا جزءا من أقواتنا.