أنقذ القدر لبنان حتي الآن من فتنة شيعية سنية ينقسم المسيحيون بينهما بسبب صدور القرار الاتهامي من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بتوقيف4 أشخاص ينتمون لحزب الله والمقاومة, وذلك لأنه ساق إلي البلد نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة في هذه الآونة, علي عكس ما كان البعض يظن بأن هذه الحكومة ستفجر البلد, فلو كان القرار صدر في وجود حكومة قوي14آذار برئاسة سعد الحريري( السابقة) لكان احتمال الانفجار أقرب بنسبة كبيرة. هكذا جاءت آراء كثيرين في الشارع اللبناني غداة صدور القرار الخميس الماضي, وطرح ميقاتي معادلة المصلحة الوطنية العدالة المستقبل لإرضاء طرفي الخلاف حول المحكمة.. قوي14آذار التي تعتبرها وسيلة لتحقيق العدالة وكشف المتورطين في الاغتيال, ولوقف القتل السياسي في لبنان, وقوي8 آذار التي تعتبرها أداة لمؤامرة أمريكية صهيونية تتورط فيها قوي داخلية للنيل من حزب الله والمقاومة, ولإحداث فتنة داخلية لصالح إسرائيل, فقد اعتبرت هذه الآراء معادلة ميقاتي تماثل معادلة الجيش الشعب المقاومة كاستراتيجية دفاعية عن لبنان التي طرحتها الحكومة السابقة كصيغة وسط تخص الطرفين أيضا علي خلفية السجال حول سلاح المقاومة والحزب. ففور صدور القرار حدد ميقاتي سياسة حكومته في التعامل مع القرار وتداعياته في عدد من العناصر هي: التعامل بمسئولية وواقعية علي القرار, ووضع مصلحة البلد والسلم الأهلي ومعرفة الحقيقة علي رأس الأولويات, ودعوة جميع الأطراف للتعامل بتعقل وتبصر مع القرار, تجنبا للفتنة, واعتماد الأصول القانونية في متابعة الحكومة للقرار من أجل حماية الوطن والوحدة, وبناء المستقبل لإثبات أن رهان البعض علي الانقسام رهان خاطئ. وبرغم تفاؤل حذر كون ميقاتي جاء من موقع وسطي إلي حد كبير, لصداقته برفيق الحريري من ناحية, واختيار قوي8 آذار له لتشكيل هذه الحكومة من ناحية أخري, فإن التحفظ واجب, فالحسابات السياسية والطائفية في لبنان تدخل فيها الارتباطات والمصالح الإقليمية والدولية لجميع الأطراف علي حد سواء, وما يطمئن اللبنانيين حتي الآن هو عدم وجود قرار دولي بتفجير لبنان, واستبعاد احتمال تصعيد حلفاء سوريا في لبنان( قوي8 آذار) الموقف في ضوء انشغال سوريا بأحداثها الداخلية, وربما هنا جاء توقيت صدور القرار الذي كان من المفترض أن يصدر قبل أكثر من عام ؟! قبل انعقاد جلسة مجلس النواب لنيل الحكومة الثقة بعد إنجاز بيانها الوزاري. واللافت أن القرار في حد ذاته لم يشكل مفاجأة للبنانيين فقد جاء صورة طبق الأصل تقريبا مما تم تسريبه لوسائل الإعلام وبدأته مجلة دير شبيجل الألمانية قبل عامين, وتابعته صحف وقنوات تليفزيونية مغربية أخري. لكن ذلك لم يمنع رفع البعض كلمات سيدنا الحسين قبل استشهاده في كربلاء: لن أمد لكم يدا ذليلة ولن أفر فرار العبيد, حيث تطبيق البعض للقرار باعتباره يستهدف الطائفة الشيعية يأتي وسط إحياء البعض من الجانب الآخر للخلافات المذهبية, ما دعا السياسيين إلي مطالبة رجال الدين بعدم استخدام القرار أداة للفتنة من أجل تفويت الفرصة علي من يسعي لاستهداف لبنان لتصفية حسابات إقليمية في ظل الأوضاع والثورات العربية التي ضربت مصالح أطراف دولية وإقليمية تسعي لاستعادتها, ورسم ما يسمي الشرق الأوسط الجديد انطلاقا من لبنان.. فالقرار الاتهامي ليس حكما, كما أنه ليس نصرا. وسط المجال بين كل من قوي14و8 آذار حول العدالة من جهة, والمؤامرة من جهة أخري, فإن التحدي الذي يواجه لبنان الآن هو كيفية التعامل مع القرار؟ فحسب الاتفاقية التي وقعتها الحكومة برئاسة فؤاد السنيورة مع الأممالمتحدة, وبروتوكول التعاون بين الطرفين بشأن المحكمة عقب اغتيال الحريري(2005) والإجراءات التي حددتها المحكمة, فقد تمت الخطوة الأولي بتسليم القرار إلي مدعي عام التمييز( النائب العام) سعيد ميرزا, أما الخطوة الثانية فهي التحدي, حيث يقوم ميرزا بتكليف السلطات الأمنية بإلقاء القبض علي المتهمين الأربعة من عناصر تنتمي لحزب الله! ثم الخطوة الثالثة بتسليم المتهمين إلي المحكمة في لاهاي, أي انتقالهم إلي خارج لبنان!! فمن سيلقي القبض ومن يسلم في ضوء التقسيم الطائفي لوظائف الدولة العليا والانتماءات السياسية؟ فالنائب العام ميرزا, والمدير العام لقوي الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي محسوبان علي قوي14آذار, ورئيس الحكومة ميقاتي, ووزير الداخلية مروان شربل هما حكومة متهمة بأنها حكومة حزب الله؟ هذا التحدي لربما كان وراء دعوة ميقاتي للتعامل مع القرار بتعقل وتبصر بمسئولية وواقعية في إطار القانون, في ضوء غياب المتهمين عن الأنظار, فأي محاولة لملاحقتهم في أماكن معينة, واتهام أي طرف بالتستر عليهم قد يفجر الأوضاع في لبنان, وهو أمر مستبعد في ظل إمكان المحاكمة غيابيا حسب مصادر سياسية, ومن ثم تقول المصادر: إن ميقاتي سيسعي بالتعاون مع كل من الرئيس سليمان ورئيس مجلس النواب نبيه بري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وأمين عام حزب الله حسن نصر الله والزعيم السني سعد الحريري من أجل تجنيب لبنان اندلاع فتنة أو إحداث عنف علي خلفية هذا التطور, باعتبار ذلك لا يقل أهمية عن ملاحقة المتهمين وتحقيق العدالة, ويحظي بالأولوية الآن كون انفجار الوضع يضر بالجميع, ويجعل موضع المحكمة برمتها مسألة ثانوية. وبرغم أن المحكمة قد عدلت في نظمها لجهة إمكان محاكمة المتهمين غيابيا, فإن هذا التحدي اكتسب بعدا تصعيديا بتلميح قوي14آذار إلي أن لبنان قد يتعرض لعقوبات دولية في حالة عدم تنفيذ القرار.. اقتصادية وسياسية, كون قرار إنشاء المحكمة صدر تحت الفصل السابع, وباعتبار أوساط قوي8 آذار أن اتهام4 فقط في القرار مقدمة لمحاولة استدراج قيادات كبيرة في حزب الله في مرحلة لاحقة من التحقيقات والمحاكمات عبر الضغط علي المتهمين في حال تسليمهم.. في لاهاي.. وهي محاولة حسب هذه الأوساط يجب وأدها منذ البداية لأننا سنسمع عن متهمين آخرين لاحقا تحت مسميات.. محرض ومتآمر ومشارك ومساعد.. وغير ذلك. في هذه الأثناء تجدد السجال حول الاتفاقية والبروتوكول كون حكومة السنيورة وقعتها وأودعتها الأممالمتحدة(2005) من دون توقيع رئيس الجمهورية وتصديق البرلمان حسبما تقضي مواد الدستور, وسط مطالبات لرئيس الجمهورية بمخاطبة أمين عام الأممالمتحدة بان كي مون لوقف العمل بها واستعادتها لمراجعتها حسب الأصول الدستورية, وهذه مجرد حرث في البحر حسبما يصفها الدكتور أيمن سلامة أستاذ القانون الدولي وأحد المستشارين في قضية المحكمة بلبنان, حيث يري سلامة أن أي حكومة لبنانية لا تستطيع التنصل من المحكمة أو إلغاءها لأنه طبقا لميثاق الأممالمتحدة فإن لمجلس الأمن التدخل المباشر( دول أخذ مسألة السيادة في الاعتبار) في القضايا التي يراها تمثل تمهيدا للسلم والأمن العالمي, وقد اعتبر المجلس اغتيال الحريري من تلك القضايا, ومن ثم تعامل مع الجريمة علي هذا النحو طبقا للمادة(39) من الميثاق التي أعطت المجلس السلطة المطلقة في تكييف الحالة, ومن ثم كان للمجلس أن ينشئ المحكمة حتي بدون اتفاقية. وينفي سلامة اتهام المحكمة بأنها مسيسة برغم قوله إنها نشأت في ظروف ونتيجة لبواعث سياسية, غير أن هناك مسألة مهمة يسلط سلامة عليها الضوء ربما تصب في جهود ميقاتي ومعادلته, فهو يلفت النظر إلي أن المحاكم الجنائية الدولية السابقة كافة حازت أسبقية علي الأنظمة القضائية الوطنية ما عدا المحكمة الدولية الخاصة بلبنان, حيث لا تستطيع المحكمة الدولية أن تصدر أوامر استدعاء أو اعتقال أو استجواب أو حتي مثول الشهود أمامها من اللبنانيين إلا عبر القضاء والنائب العام اللبناني, كما لا تستطيع ذلك أيضا لغير حملة الجنسية اللبنانية, علاوة علي أن النظام الأساسي للمحكمة اشترط التشكيل من القضاة التسعة( منهم3 لبنانيين), كما أدرك النظام الأساسي أيضا أن طبيعة لبنان تجعل من الصعب مثول المتهمين أمام المحكمة, ومن ثم أتاح محاكمة المتهمين غيابيا لتحقيق الهدف وهو العدالة, سواء تمت المحاكمة حضوريا أو غيابيا, وفي هذه الحالة فإن الدولة اللبنانية مسئولة عن تنفيذ الأحكام. وبرغم ذلك تطرح شخصيات من قوي8 آذار العبارة السحرية, مسودة سعد الحريري.. وتلك هي مسودة للحل قدمها الحريري إلي وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم في ديسمبر الماضي خلال جهوده لتسوية الأزمة حول المحكمة. علي الصعيد السياسي أيضا يعرب وزير العدل السابق إبراهيم نجاز عن اعتقاده بأن حكومة ميقاتي برغم تصريحاته لن تلتزم التعاون مع المحكمة, ورجح لجوء الحكومة إلي الالتفاف. يبقي الهاجس الأمني يخيم علي لبنان وفي الذاكرة أحداث يوم السابع عشر من آيار( مايو)1983لإسقاط الاتفاق الذي وقعته حكومة الرئيس أمين الجميل برئاسة شفيق الوزان مع إسرائيل في اليوم نفسه بشأن انسحاب إسرائيل وإنهاء حالة الحرب بين البلدين, تلك الأحداث التي أدت إلي إلغاء الاتفاق, حيث انطلقت من مسجد الإمام الرضا بالضاحية الجنوبية مسيرات شعبية قادها علماء المسلمين من الشيعة والسنة بالتزامن مع خروج حركة المقاومة اللبنانية( كانت وقتها تضم حزب الله, وقوي يسارية وسنة) لإسقاط الاتفاق, كما تخيم علي لبنان أيضا أحداث يومي السابع والثامن من آيار( مايو)2008احتجاجا علي قرار حكومة السنيورة وضع شبكة اتصالات حزب الله تحت قبضة الدولة, التي انتهت بتراجع الحكومة عن قرارها. في انتظار تفاصيل القرار فإن التساؤل: هل يذهب لبنان في رحلة إلي ماضيه؟ الشاهد حتي الآن هو أن لبنان يخشي ماضيه ولا يحن إليه, لكن أبواب الحسابات والمصالح مفتوحة علي مصراعيها. المستقيلون من المحكمة علي مدي خمس سنوات من عمل المحكمة استقال عدد ليس بالقليل من هيئاتها من أبرزهم: بيتر فوستر( كندي) رئيس الدائرة الإعلامية بالمحكمة. راضية عاشوري( لبنانية) المتحدثة باسم المدعي العام. سيرج بيراميرتز( بلجيكي) رئيس لجنة التحقيق. روبرت فنست( بريطاني) أول رئيس لقلم المحكمة. ديفيد تولبوت( أمريكي) خلف فنست. نجيب كالداس( أسترالي) مدير قسم التحقيق. هاورد موريون( بريطاني) قاض. هنريت أسود المتحدثة باسم المدعي العام. كما تعرض موظفان لبنانيان بالمحكمة لانتقادات بدعوي أن لهما رأيا مسبقا يتناقض مع نزاهة المحكمة ومصداقيتها وهما: دريد بشراوي مستشار المدعي العام لنشره مقالا بصحيفة لبنانية يتهم سوريا بالوقوف وراء اغتيال الحريري. فاطمة عيساوي الناطقة باسم المحكمة بدعوي نشر مقال بصحيفة عربية يتهم سوريا بارتكاب الجريمة, والإدلاء بتصريحات صحفية بشأن إلزام حكومة لبنان بتسليم المتهمين برغم أن النظام الأساسي يتيح إمكان المحاكمة غيابيا.