لم ينجح أي من الحوارات الرسمية أو غير الرسمية التي شهدتها مصر علي مدي الشهرين الماضيين في الخروج بتصور توافقي للمرحلة الانتقالية يتضمن جدول أعمال وطنيا. أو ما يعرف ب خريطة طريق للخطوات المتتالية والمتعاقبة التي يجب أن نسير عليها من الآن حتي الوصول بمصر إلي بر الأمان, وبر الأمان الذي نعنيه هو تحقيق الأهداف والغايات الكبري التي قامت ثورة25 يناير من أجلها, وأين نصل ببلدنا من مرحلة الثورة إلي مرحلة دولة الثورة, وليس بالطبع أي دولة. وفوق هذا وذاك لم تستطع الأطراف التنفيذية في معادلة العمل الوطني, وأقصد المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة, تحقيق إنجازات ملموسة في أهم الملفات الساخنة المرتبطة ارتباطا جذريا بمرحلة التغيير الثوري التي نعيشها. فإذا كانت القوي السياسية المدنية من أحزاب قديمة وجديدة وتيارات سياسية وحركات شبابية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات لم تستطع التوافق حول أجندة العمل الوطني التي هدفها تحقيق التغيير الثوري المطلوب, فإن المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة لم يستطيعا تحقيق الإنجازات المأمولة والمطلوبة اللازمة لدفع مسيرة العمل الوطني نحو الأمام خاصة ما يتعلق بملفات تصفية تركة العهد البائد وبالتحديد تركتا الاستبداد والفساد أي جرائم القهر والظلم التي ارتكبت من جانب النظام وأجهزته وقياداته المدنية والأمنية ضد المصريين, وجرائم الفساد السياسي والمالي التي ارتكبت بحق الوطن كله ونالت من مكانته وثرواته واستقراره. لم تتقدم محاكمات قادة النظام السابق خطوات ملموسة إلي الأمام تشعر الناس بأن الثورة تتحقق وأن القانون هو السيد الحاكم وليس التحسب لأي اعتبارات أو مجاملات علي حساب الوطن, ولم تصدر قرارات العزل السياسي بحق كل من أفسدوا مصر سياسيا وماليا ليس فقط قادة ومرشحو الحزب الحاكم السابق ولكن رموز هذا النظام في كل مناحي الحكم من مؤسسات ووزارات وحكم محلي وغيرها. فرجال النظام ورموزه هم الذين مازالوا يحكمون مصر, ولم يستشعر الناس أن الثورة امتدت إلي هؤلاء, بل إن كثيرا من هؤلاء يواجهون الناس بالتحدي والتشفي وأنهم السادة ولن يستطيع أحد أن يمس مكانتهم بسوء. بقاء هؤلاء كما هم في مناصبهم معناه المباشر أن الثورة أجهضت أو تم احتواؤها أو شراؤها من قوي داخلية أو خارجية تهدف إلي منع حدوث التغيير في مصر. أما ملفات الأمن والاقتصاد فحدث ولا حرج, فالغياب الأمني أو الفراغ الأمني ليست له إجابة عند الناس حتي الآن, والكل يتندر علي حال مصر وحال الحكومة العاجزة, ويسأل لمصلحة من يجري التعتيم علي لغز الغياب الأمني وما هي شروط عودة الشرطة للقيام بدورها, ولماذا كل هذا التخبط في إدارة الشئون الاقتصادية, خاصة كل ما يتعلق بالأوضاع المعيشية للمواطنين. كل هذا يحدث في ظل فجوة تتسع يوما بعد يوم بين ما هو شعبي أو مدني وما هو تنفيذي, أي بين كافة القوي السياسية من ناحية وبين المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة من ناحية أخري, ومع اتساع هذه الفجوة يجري النيل من الثقة المتبادلة بين الطرفين, ودخول أطراف كثيرة هدفها توسيع الفجوة وإفساد العلاقة والوصول بمصر إلي مرحلة الافتراق التي قد تقود إلي الصدام المباشر أو علي الأقل قد تدفع بنا إلي مفترق الطرق بين إكمال مشروع الثورة أو الارتداد عنه. وحتي لا نصل إلي مفترق الطرق بين بعضنا البعض ويتبدد أمل الحفاظ علي الوفاق الوطني أري أنه لابد من الإسراع بالتوصل إلي توافق حول معضلة التحدي الأكبر الذي يواجهنا الآن وهو: أيهما يجب أن يسبق الآخر: الانتخابات أم الدستور؟ فكل طرف من الأطراف لديه المبررات والحجج الكافية التي تجعله يتمسك برأيه سواء كان من جماعة الانتخابات أولا أم الدستور أولا, وكلها مبررات محترمة ووجيهة ومقنعة, ولذلك أتصور أن حوارا من نوع آخر غير كل تلك الحوارات الرسمية التي فاقمت من حدة الاختلاف والانقسام, حوار اختياريا من نوع ذلك الحوار الذي جمع بين13 حزبا وقوي سياسية وتوصل إلي قناعة بتكوين تحالف وطني يضم كل الأحزاب والقوي السياسية المتوافقة علي مبادئ الديمقراطية والدولة المدنية لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة بهدف خلق برلمان وطني يمثل الشعب المصري ويمثل التشكيل حكومة وحدة وطنية, ومن نوع ذلك الحوار الذي قاده حزب الجبهة الديمقراطية وأسفر عن اندماج ستة أحزاب وحركات سياسية تحت مظلته سمي ب المشروع المصري. فهذه الحوارات الاختيارية نجحت في إعادة منطق الائتلاف وليس الاختلاف أو الافتراق, ولذلك فإن حوارا من هذا النوع يجمع كل الأطراف, يتحدث فيه الجميع بصدق واحترام كامل للآخرين, يقول فيه كل طرف ما عنده من مخاوف ومبررات تدعم فكرته حول لماذا الانتخابات أولا, أو لماذا الدستور أولا, يمكن أن يصل بنا إلي حل وسط يحترم نتائج الاستفتاء الشعبي علي التعديلات الدستورية الذي أقر بقاعدة الانتخابات أولا, ويأخذ في اعتباره مخاوف الآخرين من البدء بالانتخابات وإرجاء الدستور. هذا الحل الوسط يجب ألا ينحصر فقط في مسألة وضع مبادئ فوق دستورية يجب أن ينص عليها في الدستور ويلتزم بها ولا تكون قابلة للتغيير, بل أن يتسع لتأسيس ميثاق وطني يتضمن صورة مصر التي نريدها أو مصر التي قامت الثورة من أجلها. ميثاق يتضمن المبادئ والقيم التي يجب أن تحكم السياسة والحكم في مصر, يجري التوافق حوله علي أن يكون الدستور القادم ملتزما بما يتضمنه هذا الميثاق من قيم ومبادئ تحدد معالم شرعية النظام السياسي المصري الجديد, أي شرعية ثورة 25 يناير. إنجاز هذا الميثاق الوطني والتوقيع عليه كمصدر لشرعية النظام الجديد وكأساس للدستور الجديد من جميع القوي السياسية وأن يصدر بقرار من المجلس الأعلي للقوات المسلحة ويمكن الاستفتاء عليه, سوف يحل تماما مشكلة الانقسام حول أيهما يسبق الآخر الانتخابات أم الدستور. فبعد إنجاز الميثاق نبدأ في وضع أجندة العمل الوطني وتحديد مواعيد الانتخابات البرلمانية والرئاسية, وقانون الانتخابات التي يمكن أن تؤجل ستة أشهر مثلا لإعطاء كل القوي والأحزاب السياسية الوقت الذي تحتاجه كي تنشط سياسيا وانتخابيا, وبعد إجراء الانتخابات نبدأ في وضع الدستور بطمأنينة وثقة كاملة دون أي مخاوف من أي طرف من الأطراف مادام أن الدستور سيكون ملتزما بالميثاق الوطني الذي ارتضيناه, لنبدأ مرحلة جديدة من العمل الوطني لبناء مصر ثورة 25 يناير. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس