يستهدف هذا المقال النظر في حركة مصر في التاريخ بين نهايات حكم أسرة محمد علي بعد الحرب العالمية الثانية إلي محاولة تأسيس حكم أسرة محمد حسني مبارك في بدايات القرن الحادي والعشرين, ومغزاها لمستقبل مصر. وهذه مسيرة تشهد بمقولة أن التاريخ حين يعيد نفسه يتجلي في المرة الثانية علي صورة مهزلة, أو مسخرة. لقد اكتسب محمد علي باشا صفة باني مصر الحديثة وعد مشروعه, علي نقائصه الجلية, مشروعا جديرا للنهضة في المشرق العربي, ما قد يبرر تاريخيا قيام أسرته بحكم مصر ملكيا, وأنجز حتي جلب عداء القوي المهيمنة في هيكل القوي العالمي وقتها وتدخلت لإجهاض مشروعه. وعلي العكس, فإن محمد حسني مبارك يستحق صفة هادم مصر الحديثة. ومن ثم فإن تسلط أسرة مبارك, بما في ذلك صعود نفوذ ولي عهده المسمي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين, لم يسجل إنجازات تذكر تبرر اسقاط النظام الجمهوري في مصر لقيام أسرة ملكية علي حطام بلد وشعب. وإن كان منطق ما يقضي بأن هذا الحطام يستحق أسرة ملكية مثل هذه. فكيف دارت الدوائر علي أرض الكنانة بين هذين العهدين الملكيين؟ حتي ليبدو أن النضال للتخلص من الملكية الأولي وما تلاه من إقامة نظام حكم تتالي تكوينه تحت قيادة جمال عبد الناصر ثم برئاسة نائبه المختار محمد أنور السادات وبعده نائب السادات المختار أيضا محمد حسني مبارك, بما في ذلك نظام الحكم الجمهوري الذي أقيم علي أنقاض الملكية الأولي, لم يكن في المنظور التاريخي إلا تمهيدا لقيام الملكية الثانية التي أسقطتها ثورة شعب مصر الفل في يناير.2011 هي, في الأساس, ثلاثة عهود من الحكم أعادت مصر إلي نقطة البداية, أو أسوأ, في منظور موقعها النسبي بين دول العالم والمنطقة. وعليه فإن طبيعة نظام الحكم- التي تعني في الأساس مسألتين: توزيع القوة,, بوجهيها السلطة والثروة, وأسلوب ممارسة القوة- تبدو العامل المحدد الرئيس لمكانة مصر في المنظور التاريخي. ويترتب عليها أشكال التنظيم المجتمعي المختلفة في مجلات اكتساب المعرفة والإنتاج وانساق القيم وأنماط السلوك, بما يحدد, نهاية, مستوي الرفاه الإنساني للبشر في المجتمع وموقع البلد من مسيرة البشرية. في أنظمة الحكم الصالح يتسم توزيع القوة بالعدالة وتمارس القوة لتحقيق الصالح العام, عبر مؤسسات شفافة تحكمها قواعد ثابتة ومعروفة للجميع. أما في أنظمة الحكم السيئ فتحتكر قلة القوة, وتمارس القوة, بواسطة ثلة أو حتي فرد واحد متسلط, لضمان مصالح الثلة القابضة علي مقاليد القوة وأهمها استمرار قبضتها علي مقاليد القوة. وفي أنظمة الحكم السيئ عادة ما يتزاوج وجهي القوة: السلطة والثروة, بما يتيح المناخ المواتي لنشأة متلازمة الفساد/الاستبداد. وعادة تسعي أنظمة حكم الاستبداد والفساد إلي إطالة أمد استبدادها بالقوة ومغانمه الضخمة, بحرمان الغالبية من مصدري القوة, من خلال إفقارها وإقصائها من السياسة عن طريق خنق المجال العام من خلال تقييد التمتع بالحرية, خاصة الحريات المفتاح للتعبير والتنظيم( التجمع السلمي وإنشاء المنظمات في المجتمعين المدني والسياسي). ولا يخفي علي حصيف أن هذه هي بالضبط كانت حالة مصر في مطالع القرن الحادي والعشرين. فإلي أين كان سيقدر أن ينتهي التوتر بين الحرية والقوة بمصر؟ في الأساس لم يكن إلا طريقين كما تقول الحكاية الشعبية. الأول هو طريق الندامة. والذي كنا سننتهي إليه إن استمر حكم الفساد والاستبداد قابضا علي خناق مصر والمصريين لمصلحة طغمة حكم فاسدة ومتغطرسة بالقوة الغشوم والإفقار المنظم, تسلطهما علي المواطنين جميعا إلا ثلة الحكم. وحيث ينطوي هذا المسار علي تراكم مظالم فجة يعانيها عامة المواطنين من دون وسائل سلمية وفعالة لمناهضتها, كانت تتعاظم احتمالات طوفان الاقتتال الداخلي الذي لن ينجي ثلة الحكم منه اعتصامها بمواقعها المنيعة في شرم الشيخ وما ماثلها من المعازل الحصينة. والثاني, أي طريق السلامة, كان يمر عبر انهيار نظام حكم الفساد والاستبداد تحت وطأة التفسخ من الداخل والضغط الشعبي من الخارج, وكان أهم مصادر الضغط المأمول علي مثل هذا النظام هو براء عموم الشعب عن حالة الاستسلام البائس التي يعيش وتبني سبيل العصيان المدني والسياسي, وهو حق مشروع, بل فرض عين, في مواجهة حكم الفساد والاستبداد الذي يعد شرعا, وقانونا, مغتصبا للسلطة. ومن حسن الطالع أن ثورة شعب مصر الفل قد قادت مصر إلي بدايات طريق السلامة, من خلال ثورة سلمية وطاهرة, إلا أن الثورة العظيمة لم تهزم مكائد نظام الحكم التسلطي الذي أسقطته بعد, تمهيدا لإقامة البني القانونية والمؤسسية لمصر الحرية والعدل و الكرامة الإنسانية للجميع في مصر, ومن ثم فما زالت ثورة لم تكتمل. وقد تواجه الخيار نفسه الذي واجهته مصر في نهايات عهد الرئيس المخلوع, بين طريقي الندامة والسلامة. نكتفي الآن بتقديم القسمات الرئيسية لمسار مستقبلي نعده بديلا خيرا لاكتمال ثورة شعب مصر الفل يفضي حال قيامه إلي زيادة فرص تبلور مسار للنهضة في مصر. تتمثل مشاهد هذا البديل الخير في عملية تحول تاريخي, تقوم علي التفاوض السلمي بين جميع القوي الحية في المجتمع المصري, ننظم محورها السياسي في عملية تاريخية للتحول نحو الحرية والحكم الديمقراطي الصالح في مصر. علي وجه الخصوص, يتطلب هذا التحول التاريخي تمهيدا أوليا يستهدف إفساح المجال العام للمجتمع المدني, شاملا الأحزاب والجمعيات الأهلية, في مصر رحبا. ويتطلب أيضا نضالا مجتمعيا ممتدا ومتصل الحلقات, يشكل فيه نجاح كل حلقة الأساس الموضوعي لنشوء الحلقة التالية. لكن يتعين أن يكون واضحا أنه بديل يطلب عملا متواصلا, بل نضالا مجتمعيا طويلا وشاقا. عندي أن السبيل الأسلم لانتقال مصر الثورة إلي الحكم الديمقراطي الصالح يمر أولا عبر التوصل لدستور يجسد آمال المصريين في بنية قانونية تضمن نيل غايات الثورة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع علي أرض مصر. ويجد هذا التصور قبولا متزايدا في دوائر النخب المصرية باستثناء تلك المستفيدة سياسيا من المسار الذي رسمته لجنة المستشار البشري للمجلس العسكري الحاكم, وأكدته بقانون للأحزاب يحرم المستضعفين والأجيال الشابة رقيقة الحال من فرصة متكافئة لإنشاء أحزابها حتي تتمكن من دخول حلبة التنافس علي الحكم في مصر. والأساس المنطقي لهذا التسلسل واضح وبسيط. فالدستور هو, في الأساس, تعاقد بين المواطنين ينظم شئون الاجتماع البشري في البلد, ومن بينها العلاقة بين المواطنين والحكم باعتباره تكليفا من الشعب لبعضه, أفرادا وعلي صورة مؤسسات, بالسهر علي المصلحة العامة والخضوع للمراقبة والمساءلة إبان تولي المنصب العام وبعده. ومن ثم, فإن الدستور يتعين أن ينظم, علي وجه الخصوص, شئونا تتعلق بانتخاب أعضاء المجلس النيابي ورئيس الدولة وباقي المناصب العامة, ومراقبتهم ومساءلتهم. وقد قفزت لجنة المستشار البشري والمجلس الأعلي للقوات المسلحة علي هذا الترتيب المنطقي بما يحقق مزايا غير عادلة لتيار الإسلام السياسي المتمثل أساسا في جماعة الإخوان ولأصحاب المال الكبير, ليس فقط في المجلس التشريعي القادم ولكن في مستقبل البنية القانونية والمؤسسية للحكم في مصر بوجه عام التي سيقوم مجلس الشعب القادم علي صياغتها. وحتي مع افتراض حسن النية, فإن النتيجة الفعلية للمسار الراهن المفضل للسلطة الانتقالية, المجلس العسكري وحكومته, مدعوما بتزيين حملة المباخر من المنافقين الجدد أو الدائمين في جميع العصور, لا تصب في مصلحة الانتقال الآمن نحو الحكم الديمقراطي الصالح في مصر الثورة, وقد يتمخض عن نكسة خطيرة له تكرس أسس الحكم التسلطي, وتمثل, من ثم, تصفية للثورة وإنزلاقا إلي طريق الندامة, مرة أخري.