لقد فرضت أحداث ما بعد الثورة نفسها علينا في الفترة الأخيرة, وأصبحت لها الأولوية حتي علي الثورة ذاتها! فانشغلت بها ولا تزال, سائر المنابر والأقلام في مختلف الوسائط الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية. وتأتي الصدامات الطائفية المتوالية في( أطفيح) و(قنا) وأخيرا( إمبابة); علي رأس هذه الأحداث, فقد تناولناها ولا نزال من زوايا شتي; غير أن هناك زاوية أساسية لم يكد ينتبه إليها أحد حتي الآن, هي زاوية( لغة الخطاب). ربما ظن بعضنا أن هذا ليس وقت الحديث عن( اللغة) عامة, و(لغة الخطاب) علي وجه الخصوص; ففي قلب الأحداث الساخنة قد يبدو أن الحديث عن اللغة ترف لا حاجة بنا إليه, إذا ما قورن بالحديث الضروري المطلوب الآن بصورة عاجلة, حول مختلف الجوانب المباشرة للأحداث الطائفية, مثل الجوانب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وسواها. غير أن مثل ذلك الظن لا يستطيع أن يصمد علي أرض الواقع, حيث تبدو الحاجة ملحة إلي( لغة) مشتركة نتفق عليها جميعا; وإلا فإن أطراف الصراع لن يكون بوسعهم أن يديروا حوارا جادا ومفهوما حول أية قضية تكون محل خلاف بين طرفين أو أكثر, ولتكن علي سبيل المثال قضية الفتنة الطائفية التي اكتوت مصر بنارها في العقود الأخيرة; وليس في مرحلة ما بعد الثورة فحسب; ولا ينسي أحد منا أحداث( الدرب الأحمر) في السبعينيات من القرن الماضي, ثم ما تبعها من أحداث دامية في( الكشح) و(نجع حمادي) والإسكندرية. لا تستطيع أطراف النزاع في تلك القضية الشائكة, أن تتحاور لتصل إلي الحل المنشود الذي من شأنه أن يقنع الجميع ويصل بهم إلي ما يرضيهم, ما لم تكن قادرة أولا وقبل أي شئ آخر, علي أن تتحدث( لغة) مشتركة في مفرداتها واضحة وضوح الشمس في دلالة اصطلاحاتها ومعاني عباراتها, بل وأكاد أقول في إيحاءاتها. وما لم نستطع أن نصل إلي تلك اللغة المشتركة, سيظل كل واحد منا يتحدث برطانة لا يفهمها سواه! سنعود إلي الوراء لنجد أنفسنا في( برج بابل) حيث تبلبلت الألسنة! ولن يكون بمقدورنا أن نتفاهم من أجل حل أبسط المشكلات التي تواجهنا في تلك المرحلة الحرجة من تاريخنا. ولو أننا شئنا الوقوف عند أمثلة واضحة محددة, فلن يعوزنا التمثيل; خذ مثلا تعبير( بيت العائلة) الذي ذاع وتردد كثيرا عقب الصدامات الطائفية الدموية الأخيرة; ما الذي يعنيه هذا التعبير بالضبط عند من روجوا له من مشايخ الأزهر مع من تبعهم من الإعلاميين والكتاب؟ وقبل أن نحاول الجواب, يحسن بنا أن نترك أنفسنا لتداعيات معاني( البيت) في ثقافتنا, لنجد أننا بإزاء دلالات واسعة لكلمة( البيت), سواء علي مستوي الحقيقة أو علي مستوي المجاز; فمن بيت العنكبوت إلي الخباء أو بيت الشعر في البادية, ثم إلي بيوت الأغنياء وقصورهم المنيفة, ومن بيوت البشر إلي( بيت المقدس) وبيوت الله عامة كالمساجد والكنائس; بل إن المقبرة تعد( بيتا) كما نري في في قول الشاعر الجاهلي دويد:( اليوم يبني لدويد بيته); فكأن البيت هو مأوي الأحياء والأموات جميعا, وحتي سفينة( نوح) تعد بيتا بهذا المعني كما ورد في القرآن:, رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا]. وهذا كله في سياق الدلالة الحرفية المباشرة لكلمة( البيت); أما الدلالة المجازية فماثلة في تعبيرات لا آخر لها, فنحن نقول: بيت الخبرة, وبيت الأزياء, وبيت المال, وبيت الحكمة( في عصر الخليفة المأمون), ونقول أيضا: بيت الشعر في القصيدة, لأنه يضم الكلام كما يضم البيت أهله, أما تعبير( بيت القصيد) للإشارة إلي جوهر كل شئ وخلاصته, فمعروف, وكذلك( بيت الرجل) بمعني زوجه وعياله; ومنه جاءت الدلالة علي الرفعة والشرف في قولنا:( بيوتات العرب) مثلا. وسائر هذه المعاني تشترك في حقل دلالي واحد, سواء علي المستوي الحرفي أو المجازي, وسواء أضفنا( البيت) إلي غيره كما في الأمثلة السابقة, أو أضفنا غيره إليه كما في قولنا:( أهل البيت). وهكذا, نري كيف أن تعبير( بيت العائلة) لم يخرج عن المعني المألوف في استخدامه لكلمة( بيت); لكن المشكلة الحقيقية تبدأ حين نضيف( البيت) إلي( العائلة) لندل بهذا التعبير علي( الوطن)! كنا نقول:( بيت الأمة) أيام سعد زغلول, فأصبحنا نقول اليوم( بيت العائلة) لننتقل إلي ضيق بعد سعة, وإلي فقر بعد غني, وتصير أنظارنا إلي قصر من بعد طول! إنها المسافة الهائلة بين العائلة والأمة, وهي ذاتها المسافة التي قطعناها نسير القهقري خلال تسعين عاما! فباعدت ما بين محمد عبده ونظرائه من فقهاء هذا الزمن, أو بين طه حسين ومن يدعون اليوم زورا أنهم تلامذته وحواريوه! وعلي العكس من تعبير بيت الأمة, يشير تعبير بيت العائلة إلي دلالات ظاهرة ومستترة, وهي جميعا تتناقض مع مفهوم الدولة المدنية; ففي حين أن بيت الأمة يحيلنا إلي سلطة القانون الذي لا تقوم أمة بدونه, نجد أن بيت العائلة يحيلنا إلي سلطة الأب الذي لا تكون العائلة إلا به وتحت إمرته; فليس الأمر هنا مجرد اختلاف في التعبير يمكن أن نغض عنه البصر; كلا.. بل هو انتقال خطير من الإطار الديمقراطي الذي يوحي به بيت الأمة, إلي السلطة البطريركية أو الأبوية التي يؤكدها تعبير بيت العائلة. من منا يسمع تعبير بيت العائلة بدون أن ترد إلي ذهنه مفاهيم مثل:( كبير العائلة) أو( أخلاق القرية) أو( قانون العيب)! وكلها لغة عفا عليها الزمن فاختفت من المعجم السياسي الحديث; بل لعلها ماتت ولم يعد لها وجود إلا في التجمعات القبلية البدوية, أو المجتمعات المتخلفة التي يقصدها علماء الأنثروبولوجيا والعاديات قبل أن تنقرض! ولكننا ونحن أقدم دولة في التاريخ, ويا للعجب! حاولنا إحياء تلك اللغة في سبعينيات القرن الماضي! حين تبناها الرئيس أنور السادات فرددناها خلفه كالببغاوات! بل لقد تسابق فقهاؤنا في الدين وخبراؤنا في القانون لكي يخلعوا عليها المسوح الدينية ويكسبوها الصبغة القانونية!وأغرب ما في الأمر أن السياق الذي تم فيه إحياء تلك اللغة المنقرضة في عصر السادات, هو ذات السياق الذي يصاحب إحياءها اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين; إنه سياق احتضان التيارات الدينية الأصولية ودعمها لكي تتصدر المشهد السياسي والاجتماعي; هذا هو ما صنعه السادات من قبل ليقضي علي الناصريين واليساريين جميعا. ولعل القارئ الحصيف يستطيع أن يلمس بنفسه مصداق ما أقول, منذ أن تم اختيار لجنة التعديلات الدستورية بهذا التشكيل الذي حرص فيه أولو الأمر أشد الحرص, علي ضم أحد الأصوليين المتشددين, إلي غير هذا من وقائع عدة لا مجال لذكرها هنا, وهي علي أية حال لا تزال ماثلة في الذهن لأننا عشناها وكابدنا آثارها الوخيمة في أثناء الأسابيع الماضية, وهل ننسي واقعة هدم كنيسة( صول) وإحراقها علي مرأي ومسمع من الجميع! صحيح أن قواتنا المسلحة قد سارعت مشكورة إلي إعادة بناء الكنيسة في وقت قياسي, وهذا إنجاز مهم بلا شك, ولكن الأهم منه ألا يفلت الجاني من طائلة القانون! بل من المؤكد أن التساهل غير المفهوم مع الجناة في تلك الواقعة, هو الذي مهد الطريق لإحراق كنيستي إمبابة. لقد حل( المجلس العرفي) أو بمعني أدل:( قانون المصطبة), محل القانون المدني, فتشجع المجرمون والمخربون علي تكرار جرائمهم بدون رادع ولا وازع! فقانون المصطبة الذي يحكمنا منذ مرحلة ما بعد الثورة; لا يخيف أحدا, لأنه ينتهي علي الأرجح ببعض العبارات الإنشائية المجاملة أو المتجملة, وكلمة من هنا مع كلمة من هناك, ثم يتبادل أطراف النزاع القبلات والأحضان التي تخفي تحت الضلوع ما تخفي! ويتقارضون الثناء ويتعاهدون اليوم علي أن الأمر قد انتهي تماما, فلا نلبث أن نصحو في الغد علي كارثة جديدة! صحيح أننا نطبق القانون المدني أو العسكري الرادع يوميا, علي عشرات من حالات الإجرام والبلطجة الفردية, وضحاياها غالبا آحاد من المواطنين; ولكن ما الفائدة إذا كنا نتخلي عن تطبيقه حين يكون الوطن كله هو الضحية؟! المزيد من مقالات حسن طلب