كانت الرحلة الي محطة تشيرنوبيل محفوفة بالكثير من المخاطر التي لم يكن ثمة ما يفسر كنهها او تبعاتها. فالمارد النووي الماثل امامك لا لون له ولا رائحة ولا صورة يمكن ان تستوضح ملامحها او سماتها. وتلك من اللحظات القلائل التي يكون فيها الجهل نعمة لا نقمة.كان العالم يقف مشدوها عاجزا حائرا امام تبعات كارثة لم يسبق لها مثيل. ولذا لم يكن غريبا بمعايير ذلك الزمان ان تبادر فرق الاطفاء الي محاولات اخماد الحريق الذي نشب اثر انفجار المفاعل الرابع لمحطة تشيرنوبيل بطرق تقليدية كانت سببا في مصرع الكثيرين من جنود وضباط هذه الفرق التي هرعت الي المكان من كل حدب وصوب. وحين ادركت القيادة الحزبية حجم الكارثة في مثل هذا اليوم منذ ربع قرن لم تستطع اعلان فداحتها مما جعلها تعمد الي محاولات الكذب والخداع التي بلغت حد التصريح بخروج مظاهرات اول مايو في احتفالية جماهيرية شاركت فيها الالوف من ممثلي الطوائف بمناسبة اعياد العمال مع اطفالهم وصغارهم ممن كانوا يتجرعون' علقم' الاشعاعات النووية في الوقت الذي ابعدت فيه هذه القيادات صغارها عن المدينة وهو ما اعتبره الجميع جريمة اخلاقية تستوجب الحساب. ويذكر الكثيرون ان الانباء الاولي حول الكارثة تواردت من الخارج وليس من موسكو بعد ان حملت الرياح الاشعاعات النووية الي سموات شمال وشرق اوروبا وتعدتها الي الشواطئ الشرقية للولايات المتحدة. كان الاتحاد السوفيتي ورغم كل ما يملك من امكانيات عسكرية وتقنية وهندسية هائلة يقف حائرا تجاه ما يمكن القيام به لاحتواء تبعات الكارثة مكتفيا بتحميل مهندسي وادارة المحطة مسئولية ما جري. وامعانا في الخداع والاحتيال والتخفيف من وقع الكارثة قاموا بشحن عدد من الصحفيين الاجانب ممن توفرت لديهم جرأة وجسارة عزاها بعضنا الي جهلنا بعواقب الامور الي منطقة الكارثة للاطلاع علي ما تبذله فرق الانقاذ من جهود نعترف بانها كانت فوق قدرات البشر. كانت آلاف الحافلات تتوالي موجات مكثفة من والي بلدة بريبيات المستعمرة السكنية للعاملين في محطة تشيرنوبيل تحملهم الي خارج المنطقة التي اطلقوا عليها آنذاك الملوثة وحددوها في دائرة نصف قطرها ثلاثون كيلومترا. خرج الجميع لا يلوون علي شئ يشقون طريقهم بين الغابات التي كسا السواد اشجارها ولم تكن قد اكتست بعد بخضرة ذلك الربيع. حتي الملابس المعلقة علي المناشر في الشرفات والنوافذ بقيت علي حالها في الوقت الذي تناثرت فيه لعب الاطفال في الافنية والشوارع والتي حظر نقلها لما تحمله من اشعاعات قاتلة. كانت اصوات موتورات الشاحنات العملاقة تتعالي مزمجرة وكأن لسان حالها يصرخ بفداحة الكارثة تئن تحت وطأة ما تحمله من تربة ملوثة بالاشعاعات تم تجريفها لدفنها في مستودعات جري تجهيزها علي عجل. كانت كييف تموج بالكثير من المؤتمرات واللقاءات العلمية تحت اشراف هانز بليكس مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية آنذاك والعديد من العلماء والاطباء. كانوا يتدارسون كيفية اخماد المارد النووي ومعالجة الموقف بعدما تيسر لهم بصعوبة منقطعة النظير اطفاء لهب الحرائق المتصاعدة من المفاعل الرابع لما يزيد عن عشرة ايام. وبقيادة الاكاديمي السوفيتي الشهير ليونيد فيليخوف تفتقت اذهان زملائه من اكاديمية العلوم السوفيتية وخبراء وكالة الطاقة الذرية عن فكرة تشييد غطاء خرساني مسلح اسموه ب' التابوت' لدفن المفاعل الذي استعصي علي محاولات التهدئة لاشهر طوال. كانت الارقام تنزل فوق الرؤوس كصواعق تطير معها الالباب. فقد تلوثت مئات الالوف من الكيلومترات المربعة في اراضي اوكرانيا وروسيا وبيلاروس و19 من الاقاليم الاخري في الاتحاد السوفيتي السابق وهو ما حاولت السلطات المحلية والفيدرالية احتواءه من خلال تهجير الكثيرين من أبناء هذه المناطق الي اماكن قالوا آنذاك انها اكثر امنا وهو ما تأكدت عبثيته فيما بعد. قالوا ان عددهم بلغ ما يقرب من تسعة ملايين شخص في الجمهوريات السوفيتية الثلاث بلغ عدد من قضي نحبه منهم مع منتصف تسعينيات القرن الماضي ما يقرب من170 ألف شخص. وقد خلص العلماء آنذاك الي ضرورة تشييد الغطاء الخرساني المسلح لعزل المفاعل الرابع وهو الغطاء الذي كشفت الدراسات والمراجعات العلمية الاخيرة عن اصابته بالشقوق وتحلل بعض اجزائه بعد25 عاما من بنائه ما يجعلهم يعكفون اليوم علي دراسة بناء منشأة أخري اكثر عصرية. وكان الرئيس دميتري ميدفيديف اعلن عن ضرورة اضطلاع البلدان الصناعية الكبار بتنفيذ ما سبق وقطعته علي نفسها من وعود للمساهمة في تصفية تبعات الكارثة مشيرا الي ضرورة فتح باب الاكتتاب لتشييد' تابوت' جديد لاحتواء ما لحق بالقديم من شقوق وتحلل لبعض اجزائه ونظرا لقرب انتهاء الموعد الذي سبق واعلنوه لضمان عدم تسرب الاشعاعات خلال ثلاثين سنة من تشييده اي بعد خمس سنوات.ومن المعروف ان اوكرانيا اتخذت قرار وقف عمل المفاعلات الثلاثة الاخري بمحطة تشيرنوبيل في5 ديسمبر2000 بينما اعلن رئيسها يانوكوفيتش عن ان التابوت الجديد سيتكلف ما يزيد عن المليار دولار بمواصفات تكفل ضمان عدم تسرب الانبعاثات النووية لمدة تناهز المائة عام.واعلن ميدفيديف ان روسيا تنوي خلال قمة مجموعة الثماني الكبار في مايو الحالي طرح العديد من المقترحات حول معايير امان المحطات النووية بهدف رفع مستوي امن هذه المحطات وبما يجعلها ملزمة لكل البلدان التي تختار استخدامها لتوليد الطاقة الكهربائية. وبحث ميدفيديف مع يانوكوفيتش خلال زيارته الاخيرة لاوكرانيا قضايا امن الطاقة النووية والجهود اللازمة لازالة ما بقي من آثار كارثة تشيرنوبيل علي ضوء تفاقم الاوضاع في المنطقة واستخلاص العبر والدروس من تاريخ الامس القريب والحاضر المريع الذي تعيشه البشرية بعد انفجار مفاعل محطة فوكوشيما اليابانية.واشار الي ان الوقت قد حان للتفكير في قرارات دولية جديدة ما دامت البشرية لا تزال عاجزة عن ايجاد مصادر بديلة للطاقة النووية. واكد ان كارثة فوكوشيما كشفت عن ضرورة تكاتف الجهود من اجل ضمان ان تكون الطاقة النووية طاقة سلمية فيما طالب الجميع بالعمل من اجل اعداد قانون جديد ملزم لكل بلدان العالم دون استثناء. وتقول مصادر وكالة امن منطقة تشيرنوبيل الاوكرانية ان اطلال المفاعل الرابع تشمل بين جوانبها ما يقرب من135-180 طنا من بقايا الوقود النووي تحمل في طياتها ما وصفته ب'الاخطار النائمة' وهو ما يظل يؤرق امن البشرية جمعاء. وكانت المصادر الاوكرانية والبيلاروسية كشفت مع حلول الذكري الخامسة والعشرين للكارثة النووية عن بعض مما تكبدته خلال الفترة الماضية ومنها تزايد نسبة الاصابة بالسرطان ووفاة الألوف من سكان الجمهوريتين وضياع مساحات كبيرة من اراضيهما بسبب التلوث والاشعاعات واصابة المحاصيل الزراعية في مقتل وانهيار سمعة صادرات المواد الغذائية فضلا عما لحق بهما من خسائر مادية وتزايد نفقات احتواء تبعات وسلبيات الكارثة والتي قالت انها تقدر بما يزيد عن12 مليار دولار في كل من الجمهوريتين.