قبل سنوات قرر الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو السماح لأي مواطن يريد الرحيل من كوبا, إلي مغادرة البلاد..فخرج المئات في قوارب وسفن فرحين بحريتهم, متجهين إلي ولاية فلوريدا, وبعد وصولهم إلي أمريكا, أرض الأحلام, جاء أول اختبار لهم للحرية عندما توجهوا إلي السوبر ماركت لشراء حوائجهم وقف الكوبيون أمام الأرفف المكدسة بالسلع الاستهلاكية, في ذهول وحيرة أمام كل هذا الكم من الاختيارات لكل منتج والذي لم يتعودوا عليه في بلادهم, ولم يستطع العديد منهم اتخاذ قرارات واختيار مايريدونه من بين هذا التنوع الكبير, فقرر عدد منهم العودة إلي وطنهم. هذا الشعور هو ما أصابنا نحن في مصر الآن, فهناك شعور بالتوتر والقلق إزاء المستقبل, والبلبلة أمام مختلف الأفكار التي تطرح مابين تنوع الأحزاب السياسية الجديدة أو التعديلات الدستورية أو الجداول الزمنية للانتخابات المقبلة والتي سوف نخوض منها نحو أربعة خلال عام ونصف العاممابين انتخابات تشريعية ورئاسية والاستفتاء علي دستور جديد, مع اختلاف الترتيب. هذا القلق مشروع لأننا لم نتعود علي الاختيار, والمخاوف من عدم الاستقرار الذي ينتظرنا لفترة من الوقت, متوقعة. فإن كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب, فهي تعني في الأساس أن يقوم الناخبون باختيار ممثليهم من بين العديد من الشخصيات المرشحة, ويصبح علي الناخب مسئولية ومهمة اختيار من يري هو أنه الأفضل, ليس لمصلحة شخصية, ولكن لمصلحة البلاد الحالية والمستقبلية. هذه المهمة صعبة خاصة بالنسبة لشعب لم يتعود أن يختار, ومتهم دوما أنه جاهل ومغيب وغير مؤهل للديمقراطية, وذلك بالرغم من أن العديد من الأميين وغير المتعلمين وغير المثقفين قادرون علي تحديد احتياجات بلدتهم وموطنهم أكثر من أي مثقف ومتعلم يتحدث بكلمات غير مفهومة مثل الليبرالية والعلمانية وغيرها..فالفلاح المصري يستطيع أن يدرك مدي خطورة السماد المسرطن والتقاوي الخارجية التي فرضت عليه والتي لا تستخدم إلا مره واحدة, والعامل المصري البسيط يعي تماما مخاطر تدهور الصناعات المصرية التي عمل فيها عشرات السنين ففهم كل حناياها وبواطنها. وإن كان الناخب المصري اليوم يقف حائرا أمام هذا الكم من الاختيارات, فإن ضمانه الوحيد علي نجاح العملية الديمقراطية ونجاح الناخب في الاختيار الجيد هو الممارسة, فالخطأ يمكن أن يتصوب في الانتخابات التالية, والغموض يمكن أن يتبدد بالشفافية, فلم تصل بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا أو الهند إلي الديمقراطية فجأة, ولكن ذلك نتاج سنوات وسنوات من الممارسة ومن الخطأ والصواب. لكي نبدأ في مرحلة الممارسة بداية صحيحة, وهي المرحلة التي يمكن أن نعتبرها صعبة ولكنها في نفس الوقت جميلة, علينا ألا نتوقف عن الحوار والنقاش وحضور الندوات, والتعبير عن الرأي وطرح التساؤلات, والاستماع إلي الآخرين, والإنصات لما يقولونه, كل ذلك سوف يبلور لدي كل فرد تصورا ما لما يريده من مرشحيه, وسوف يساعده علي اختيار الشخصية التي سوف تطبق هذا التصور. وإن كانت الديمقراطية هي حكم الشعب, فهي في الأساس, حكم الأغلبية المطلقة من الشعب, أو سيادة50.1% أو أكثر من الناخبين, وعلي ال49.9% الآخرين أن يحترموا اختيارهم ويقبلوه إلي أن تجري الانتخابات التالية, لذلك فعلي كل ناخب أن يختار بعقله, وليس بقلبه, البرنامج والمرشح الذي سيطبق هذا البرنامج, لأن قراره سوف يساهم في رفعة وطنه أو في تراجعه, ولعلنا نتذكر كيف قام الناخب البريطاني في الانتخابات العامة التي تلت الحرب العالمية الثانية, برفض حزب ونستون تشرشل الذي قاده إلي الانتصار, لأنه أدرك أن وطنه يبدأ فترة سلام وبناء, وأنه في حاجه إلي حزب آخر يقوده في تلك المرحلة الجديدة. وأخيرا, إن كانت الديمقراطية هي حكم الأغلبية المطلقة من الشعب, فيجب أن تكون تلك الأغلبية المطلقة علي وعي ودراية تامة بما تحتاجه البلاد فعلا, لأنه إن كانت ضعيفة ومسيرة, فسيأتون بحكام مستبدين, والعكس بالتأكيد صحيح, الشعب القوي والواعي لضروريات العصر, سيأتي حتما بحكام وممثلين له علي نفس شاكلته. إننا بالتأكيد نسير علي الطريق الصحيح نحو الديمقراطية الحقيقية, فإن أهم نتائج الثورة هو هذا الكم الهائل من الندوات والحوارات والنقاشات التي نشاهدها ونشارك فيها ونهتم بها, سواء علي التليفزيون أو في الدوائر الثقافية المختلفة, ولكن المهم ألا نيأس, كما يأس مواطنو كوبا, ولا نعود أدراجنا إلي الحياة الأسهل التي لانحتاج فيها إلي هموم الاختيار أو إلي مسئولية الممارسة الحرة. المزيد من مقالات ليلى حافظ