لايوجد أفضل من الوضوح في تسمية الأشياء بمسمياتها وعدم خلط الأوراق فبقدر حاجتنا لقنوات تليفزيونية عامة ومستقلة عن الحكومة, فإن هذه المرحلة الانتقالية يحتاج فيها المجلس العسكري الأعلي الذي يحكم البلاد وتعاونه حكومة رئيس الوزراء المعين د. عصام شرف قناة تليفزيونية حكومية تأخذ تعليماتها دون حرج أو تذويق من ادارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة والمكتب الاعلامي التابع لمجلس الوزراء, الذي عليه تنسيق احتياجات الرئيس وباقي وزرائه لبث واذاعة بيانات وتصريحات وأنشطة الحكومة ومؤتمراتها الصحفية بما يضمن تقديم خدمة اعلامية شاملة لتوصيل رسائل, وتوضيح سياسات المجلس العسكري والحكومة بصورة شاملة تتوخي الدقة والمصداقية في أي معلومة تنقلها للمشاهدين( وكذلك المستمعون علي محطة إذاعية كالبرنامج العام), ولكن بدون أن نطلب منها ان تقدم وجهات متوازنة أو الرأي والرأي الآخر, فهذا مكانه قناة أو عدة قنوات أخري عامة نحتاج اليها بالمثل لتقديم تغطية إعلامية شاملة ومتوازنة ومستقلة عن الحكومة والادارة العسكرية, لتقديم مختلف آراء المجتمع المصري من معارضي الحكومة ومسئوليها بالمثل. المشكلة الحالية تكمن في الخلط بين ضرورات المرحلة الانتقالية الحالية كتدخل الشئون المعنوية في توصيل الرسالة الإعلامية بالتليفزيون المصري وتهدئة الوضع الأمني والوظيفي وهو ما قام به اللواء طارق المهدي, ومساعي تطوير دور وأداء المبني من خلال تعيين أستاذ الاعلام د. سامي الشريف الرئيس الجديد لاتحاد الاذاعة والتليفزيون الذي يؤكد في كل مناسبة أو غير مناسبة أهمية أن يكون إعلامنا هو اعلام الدولة, وليس إعلام أو قنوات الحكومة, والنتيجة خلط في الأوراق وتناقض بين الأقوال والأفعال بشكل يهدد مصداقية ارادة التغيير, وهي مانعلق عليها آمالنا, وليس مصداقية المبني ورموزه الاعلامية التي أصبحت حساباتها بدون رصيد بغض النظر عمن الجاني أو المجني عليه في ماسبيرو, فنشرات الأخبار في التليفزيون المصري التي تبث علي القناتين الأولي والفضائية المصرية, مازال يحررها قطاع الأخبار نفسه الذي كان يتلقي أوامره في السابق من الرئاسة ووزير الاعلام, وحاليا من ادارة الشئون المعنوية العسكرية وربما مجلس الوزراء عبر رئيس الاتحاد ترتيب شكل ومضمون نشرة الأخبار البروتوكولية الرسمية لم يتغير: حل في الخبر الأول صورة المشير طنطاوي محل الرئيس مبارك, وهو يستقبل الرئيس السوداني أو التركي بدون تفاصيل سوي العبارات الإنشائية المحفوظة, بعد ذلك( في غياب السيدة الأولي, من أن أخبارها الآن حتي وهي في زيارة من شرم الشيخ للقاهرة أهم من زياراتها السابقة لمكتبة الإسكندرية) تأتي في المرتبة الثانية حاليا أخبار رئيس الوزراء ولقاءاته المتتالية بدون معلومة مفيدة أو مضمون, ثم لا مانع من وقعت لآخر من صورة وخبر لنائب رئيس الوزراء د. يحيي الجمل( حمدا لله علي التغيير بسماع أخبار هذا الرجل الفاضل) وبعد ذلك بعض الوزراء ثم بعض صور وأحداث ليبيا, وتتلو النشرة من وقت لآخر مقابلات مع ضيوف كانوا من رموز المعارضة في السابق, وبالتالي أصبحوا الآن من مؤيدي النظام الجديد, فالكل ينتقد مبارك وعائلته وحزبه وحكمه وكل جملة مفيدة أو غير مفيدة يرد فيها اسمه. وانعكس الحال فأصبحت فكرة استضافة شخص يدافع عن حكم مبارك أو ينتقد الوضع الراهن أخطر وأبشع مما كانت عليه فكرة استضافة أيمن نور في عهد مبارك, مع فارق أن اسماء معارضي النظام السابق وعناوينهم كنا نعرفها, أما معارضو اليوم, بافتراض وجودهم, لايجرؤون علي كشف هويتهم. فهل حققنا تغييرا؟ ومع فقدان التليفزيون المصري هويته ومصداقيته لجأ رئيسا مجلس الوزراء السابق والحالي, وقبلهما قيادات المجلس العسكري, بل وأخيرا مرشحو الرئاسة الي القنوات الخاصة برجال الأعمال ليخاطبوا شعبهم الذي انصرف عن تليفزيون الدولة بعد أن طال انتظاره أمام شاشتها للتغيير, وحين يحتاج الجيش الي ابلاغ الشعب شيئا عاجلا فلم يعد لديه أجدي وأسرع من ارسال رسالة قصيرة علي هواتفنا المحمولة, فلم كل هذه النفقات علي تلك القنوات, ولم كل هذه الجنود المدافعة عن مبني جاء إليه ثوار التحرير قبل الذهاب الي قصر الرئاسة كرمز من رموز النظام الذي أرادوا إسقاطه, وأصبح الآن الرمز المتبقي لتجمع كل متظاهر يريد توصيل رسالة رغم أن القائمين عليه يرسلونها عبر شركات الهاتف. المطلوب البدء بالتركيز علي قناتين: حكومية تخصص لها علي سبيل المثال القناة الأولي ببثها الأرضي والفضائي معا وتخضع بشكل واضح للمجلس الأعلي للقوات المسلحة, بالاضافة إلي مجلس الوزراء, لتكون الأولوية فيها لبيانات وأخبار الحكومة وأنشطتها, الي جانب مختلف الموضوعات والبرامج الأخري بما فيها أخبار المحافظات والمحليات بما في ذلك ضم بعض نشرات أو تقارير مراسلي القنوات المحلية أو الاقليمية السبع في البث اليومي, ولكن مع ضمان تقديم البرامج بشكل متطور وبمضمون أفضل غير أن المقصود بقناة حكومية هو التبعية في السياسة التحريرية للحكومة سواء كانت عسكرية حاليا, أو أصبحت شخصية رئاسية منتخبة في سبتمبر المقبل, ولايعني كونها حكومية وممولة منها أن تكون مملة أو متدنية المستوي أو دعائية, أو غير مسئولة عن دقة وصدق أخبارها وتحاسب علي ذلك مثلما تحاسب الحكومة أمام البرلمان حين يتم انتخابه. القناة الأخري المطلوب تطويرها بشكل عاجل ومتزامن أيضا, هو قناة عامة قد يخصص لها علي سبيل المثال القناة الفضائية المصرية, ومعها القناة الثانية للبث الأرضي, وهي القناة التي نريدها قناة الدولة العامة والمستقلة التي لاتقتصر علي أخبار الحكومة وبيانات المجلس العسكري ان رأت ادارة القناة لتلك الأخبار أهمية, مع ضمان وجود مختلف الآراء المتباينة والتيارات السياسية والفكرية. ومثلما تهتم هذه القناة بالشأن المصري, فإن عليها مسئولية اعلام المشاهد المصري, وكذلك العربي المتابع إرسالها في كل أنحاء العالم للثورات والتحولات السياسية الكبيرة في عالمنا العربي, الذي تغير في بعضه القيادات والساسة, ونحن منقطعون عنهم أو تلك التي تشهد انتفاضات ومظاهرات في الخليج تتكلم علي أنبائها, أو تمنع ظهور قادتها من شخصيات المعارضة القنوات المملوكة لدول خليجية التي لاتتوقف عن تغطية الشأن المصري بأجنداتها السياسية, سواء كانت مناصرة للتيار الإسلامي علي حساب آخرين, أو معاداة هذا التيار والتحريض عليه في قناة أخري. وبالطبع يفترض الا تخضع هذه القناة لتعليمات مكتب عسكري أو حكومي, وان كان كلاهما وباقي مصادر الأخبار الأخري ستكون محل ترحاب بأخبارها التي يقرر القائمون علي تلك القناة مدي أولوية أو أهمية بثها أو استضافة شخصياتها, مع استثناء بث البيانات العسكرية حين صدورها في تلك المرحلة الانتقالية. وتبقي مسئولية وتبعية هذه القناة العامة لمجلس أمناء الاتحاد الذي يمثل أطياف المجتمع المصري ويكون مسئولا أمام البرلمان المنتخب بنزاهة عن الشعب, وهو الذي يحدد ميزانية الانفاق العام عليها. علينا الإسراع بالتغيير وتطوير قناتين منفصلتين: حكومية وعامة بما فيها ومن فيها, مع النظر في نقل إحداهما أو كليتهما بعيدا عن ماسبيرو, فلم يعد المبني مكانا مناسبا للعمل والإعلام بل للتظاهر والاعتصام.