كان يحدث في بداية عملي الصحفي في أوائل الستينيات, ونحن نتعامل مهنيا مع الأحداث في دول العالم الثالث, بعد استقلالها وقيام حكومات وطنية, أننا نلاحظ استخدام وسائل الإعلام العالمية كلمةRubberstamp, كأكليشيه ثابت, تصف به برلمانات دول حديثة الاستقلال. والمعني الحرفي للكلمة هو ختم مطاطي, أو بصمة الموافقة, وهو تعبير مجازي يعني جريان كلمة موافقون علي ألسنة أعضاء البرلمان علي أي سياسة أو برنامج للحكم, دون مناقشة, أو تفكير, أو إعمال للعقل, وكان الموافقون بصورة أوتوماتيكية, من أول أسباب الحجر علي تقدم الدول المستقلة حديثا. ولقد أصابنا في مصر نصيب كبير من هذا في كل برلماناتنا, منذ مابعد2591 وحتي.1102 والنتيجة أن السلطة التشريعية الممثلة للشعب, تحولت الي ممثلة للحكم, وخاضعة له وأداة طبعه بين أصابعه, ولم يعد الكيان الذي يحمل اسم البرلمان, يملك الصفة التمثيلية للناخبين. فالعبرة ليست بالاسم, بل بالدور الذي تؤديه السلطة التشريعية. ولأن الصفة التشريعية لا تكتمل سوي بالعلم والمعرفة, وبالإحاطة بأمور السياسة والثقافة, وبما يجري في العالم من تحولات. ولأن الأصل في البرلمان انه الركن المهم في العملية السياسية, وانه المكلف بمراقبة السلطة التنفيذية, والتزامها بنص وروح العقد الاجتماعي الذي التزم به رأس السلطة التنفيذية وحكومته, بأداء أهداف بعينها, ارتضاها الشعب. ولذلك فان انتخاب برلمان جديد الآن, وبعد ثورة52 يناير, هو جزء لا يتجزأ من ديناميكية الثورة التي قامت لإسقاط النظام, وبنيته التحتية, وإصلاح الحياة السياسية, ومن ثم يلزم وضع معايير تحدد مواصفات من يشغل مقعده في البرلمان, والذي يتمتع بالكفاءة, واستقلالية الموقف, وبالمعرفة التي تسمح له أداء عمله في مؤسسة تشريعية, وبعد ان كان النظام السابق قد غرس في أرض بور قام بتجريفها, بذورا أنبتت زرعا هو من نفس جنس الأرض البور. والمعروف أن مصر جزء من عالم يعيش الآن متطلبات القرن الحادي والعشرين, وعصر ثورة المعلومات, وبالقرب منا, خاصة في آسيا دول تتقدم وتنهض, وكانت مصر بالنسبة لها حتي وقت قريب, الدولة النموذج. لكن الذي حدث أن هذه الدول تقدمت سياسيا, واقتصاديا, وثقافيا, واتسع دورها الإقليمي ومكانتها الدولية, وظلت مصر تراوح مكانها. لقد وصل الحال, بمفكرين في العالم, وفي الغرب خاصة, لان تتفق آراؤهم, ودراساتهم المتصلة علي ان للشعوب العربية طبيعة استثنائية, تجعلها غير مهيأة للديمقراطية, لأن العرب يقدسون الحاكم المتسلط والمستبد. وهو وضع كانت أي قراءة لأحداث التاريخ في مصر تثبت عدم صحته, منذ ثورات المصريين, في عصور المماليك, والعثمانيين, وثورة عرابي, وثورة91, وانتفاضة5391, وعنفوان الحركة الوطنية في أربعينيات القرن الماضي حتي عام2591, والي ان اكتملت حلقات السلسلة بثورة52 يناير.1102 وأخذ اصحاب هذه الآراء في الغرب يراجعون أنفسهم, ويعترفون بأنهم أقاموا رؤيتهم علي الشكل الظاهر لهم والمتمثل في طول زمن حكم مستبد, يقهر الديمقراطية, بالخوف وبأجهزته القمعية الأمنية. اننا اليوم ونحن نريد بناء دولة ناهضة نحتاج الي وضع مقاييس جديدة, لمن تنطبق عليه مواصفات المرشح للبرلمان. وليس هذا بدعا في مصر, فهو ماسبق أن عرفته برلمانات ماقبل ثورة25, حتي ولو كانت هناك ملاحظات علي عدم اكتمال العملية السياسية. وعلي سبيل المثال وبشكل مختصر, نجد في آخر برلمان قبل الثورة أسفرت عنه انتخابات يناير2591, مناقشات برلمانية تقوم بها شخصيات جديرة بأحقيتها في ان تحمل الصفة التشريعية. وكانوا أعضاء في مجلس الشيوخ والنواب, ولديهم معرفة واعية بالشئون الداخلية والدولية علي السواء وتعبر مناقشاتهم عن توجهات وطنية تتجاوز الانتخابات الحزبية, بدليل مشاركة كثير من الأعضاء الوفديين في انتقاد سياسة حكومتهم الوفدية. ونفس الحال عند مناقشة ممثلي الأحزاب, خطاب العرش. وشهدت جلسات البرلمان جولات شهيرة لنواب وشيوخ أمثال: نور الدين طراف, ومصطفي مرعي, ومحمد بلال, ود. محمد حسين هيكل, وأمين عز العرب, فمثلا كان هناك سؤال للنائب السعدي راغب اسكندر لوزير الداخلية عن الاعتداءات علي صحف المعارضة وكان الوزير يرد وهو يدرك قامة ممثل الشعب الذي يستجوبه. وعرف البرلمان مطالب بإصلاح الأحوال الداخلية, الاقتصادية والاجتماعية, منها مطالبة الشيخ السعدي محمد خطاب بتأمين المواطنين علي صحتهم وحياتهم وتعليمهم. ومطالبة النائب علي الشيشيني( وفدي عن المحلة الكبري) بإزالة الفوارق بين الطبقات, وتوجيه اهتمام أكبر لإصلاح الأوضاع المعيشية. ولم تكن مناقشات القضايا الدولية تقل في أدائها عن نفس المستوي الراقي, نذكر منها المناقشة المتعمقة للنائب محمد توفيق خشبة للبيان الثلاثي الصادر في مايو2591, من الولاياتالمتحدة, وبريطانيا, وفرنسا, بشأن الرقابة علي التسلح في الشرق الأوسط, لمصلحة اسرائيل. ان المعايير التي حرص النظام السابق علي وضعها لاختيار المرشحين( ومنها نسبة ال05% للعمال والفلاحين), قد جردت البرلمان من صفته التمثيلية والتشريعية, بالاضافة الي تمكين الحزب الوطني من التسلط علي البرلمان بأغلبية جاءت بالتزوير, وبتدخلات من الأجهزة الرسمية, التي تعاملت مع الحزب باعتباره إحدي الادارات الرسمية للدولة, وأولها جهاز أمن الدولة في حين كانت ترتع في جسد الحزب جميع جراثيم وسلبيات التنظيم السياسي الواحد, منذ هيئة التحرير, وحتي الحزب الوطني, وهو الذي لم يكن حزبا بالمعني الصحيح, بل كان شبكة مصالح, مع استثناءات قليلة لشخصيات كان الحزب يجمل بها صورته. والآن تدخل مصر مرحلة جديدة في تاريخها, تحتاج ان تكتب صفحاتها, بلغة ومفاهيم أخري, تتجنب كل مافات من عوامل الهدم, والتخلف, وتتيح لمصر برلمانا يراقب ويحاسب, ويشرع, ويضم أعضاء يتمتعون بالعلم والمعرفة, والحس الوطني الصادق, واستقلالية الموقف, والتجرد من التلون وانقلاب المواقف. فلقد بدأ تصحيح المسار التنفيذي بتكليف الدكتور عصام شرف برئاسة الحكومة, ويبقي تصحيح بقية المسارات. المزيد من مقالات عاطف الغمري