كانت صلتي الأولي بالثورة عندما سمعت همس الكبار عن ثورة يوليو1952 المجيدة; ورغم أنني لم أكن أفهم كثيرا فقد أصبحت في طفولتي من أنصارها حتي عندما ظل كثرة من المحيطين يتحدثون بإعجاب عن سعد زغلول ومصطفي النحاس. وكانت حرب السويس1956 سببا في إشعال حماسي للزعيم الخالد جمال عبد الناصر وصحبه الأحرار حتي عندما كان هناك متشككون في نصر أدي إلي الاحتلال وفتح مضيق تيران للملاحة الإسرائيلية, ولكن كلمات الأستاذ محمد حسنين هيكل عن تأميم القناة, والنصر الذي كان سياسيا أو عسكريا كفي وزيادة لإبقاء الحماس. ولكن النقطة الفارقة جاءت في الصف الأول الثانوي عندما كلفنا أستاذ التاريخ أن نكتب ورقة أو بحثا صغيرا عن واحد من الأحداث التاريخية وجاء نصيبي عن الثورة الفرنسية. وهكذا التهمت عدة كتب عن الواقعة, وهالني ذلك الفارق ما بين البداية الرومانسية للثورة مع سقوط ملك فاسد وملكة حمقاء وطبقة ونخبة حاكمة مثيرا للغاية بينما علي الخلفية يقع اقتحام الباستيل عنوان الظلم والطغيان. ولكن الرومانسية شحبت بينما آلة الجيلوتين تقصف الرقاب أولا بين أنصار النظام القديم, ثم بعد ذلك قادة النظام الجديد الذين حولوا الدولة إلي بونابرتية كانت هزيمتها سببا في عودة الأسرة المالكة الفاسدة من جديد. ما جري لفرنسا بعد ذلك ليس قصتنا, ولكن رومانسية الثورة وقدرتها علي اقتلاع الظلم والطغيان ضاع منها بريق كان أخاذا بالعقل. وعندما جاءت هزيمة يونيو1967 بدت المراجعة لكل الثورة المصرية واجبة وفقد كثرة من كتابها سحر كتاباتهم وكيف يمكن لثورة أن تكون عظيمة بهذا الشكل بينما تفقد أراضي الدولة مرتين خلال نصف جيل. علي أي الأحوال كان ضروريا من شباب ثورة يوليو أن يخرجوا في مظاهرات فبراير1968 لكي يتساءلوا عن سبب الهزيمة, ويبحثوا في أسباب النصر الذي لم يكن له بديل, وكانت هذه هي أول الثورات في العهد الناصري الثوري هو الآخر, ولكنه كان الآن قد مر بمرحلته الواقعية وأصبح عبد الناصر بونابرتا من النوعية المصرية. وبينما كانت مظاهرات1968 هي المحاولة الأولي فإن مظاهرات1972 كانت أكثر عمقا وبحثا عن الديمقراطية وعملا علي مقاومة الفساد, ولكن الثورة في النهاية لم يكن أمامها إلا أن تركز علي المهمة الأولي وهي التخلص من الاحتلال. الصدفة وحدها كانت خلال هذه الفترة التي جعلتني في أثناء الدراسة أنظر في الفكر الماركسي والثورة البلشفية, وأعطي كتاب جون ريد عن العشرة الأيام التي غيرت العالم صيغة رومانسية لثورة كبري ما لبثت أن اختلفت مع نفسها, وعندما حكمها ستالين أصبحت الدماء بحارا, وبعد سبعين عاما من الثورة جاء الانهيار الكبير علي يد جورباتشوف, وعندما حل محله يلتسين ضاعت الرومانسية بسرعة وحل محلها دولة للفوضي والجريمة المنظمة, حتي وصل الروس في المخابرات العامة إلي حل: دولة يحكمها بوتين وميدفيديف بحيث يتناوبان رئاسة الجمهورية والوزراء, وبهذه الطريقة تكون هناك ديمقراطية ودولة في آن واحد, أو هكذا قال النظام الجديد. وفي أثناء وجودي في الولاياتالمتحدة لاستكمال دراستي العليا قابلت كثيرا من الثوار من أوكرانيا حتي شيلي, ولكن أكثرهم قربا وإثارة كان القادمين من إيران. وما جعلهم كذلك أنه في عام1977 كانت أحلامهم قريبة التحقيق وهو ما جري بالفعل خلال عامين عندما نجح الإسلاميون من أنصار الخميني, والليبراليون, والماركسيون, وجميع ألوان الطيف والمعارضة السياسية في إسقاط نظام مروع بالظلم والفساد. كانت الحالة رومانسية للغاية بالمظاهرات المليونية الضخمة, وانضمام الجيش إلي الثورة, وسقوط السافاك. وما زلت حتي الآن أتذكر ذلك النقاش عالي الصوت القريب من المشاجرة الذي جري بين الإيرانيين من اليعاقبة المصرين علي التصفية الكاملة للنظام القديم والبناء من جيد, والليبراليين الذين يريدون بناء نظام ديمقراطي يقوم بعملية التحول التاريخية. لم يكن النقاش جديدا فقد قرأت مثله من قبل, ولكن هذه المرة كانت من جماعات تنتمي إلي ثورة جارية بالفعل. انتصر اليعاقبة الإيرانيون, وتمت تصفية الشاه ونظامه وكان ذلك مقبولا, ومن بعده جرت عمليات تصفية الليبراليين والماركسيين, وكان ذلك مستهجنا, وبعد ذلك كل المعتدلين من قطب زادة إلي بني صدر الذين كانوا جزءا من الثورة المظفرة. انتصر بونابرت الخميني مرة أخري, وتم استنساخ شخصيته حتي وصلنا إلي أحمدي نجاد الذي بات محافظا علي نسخة من الثورة لا يوجد فيها إلا أنصاره وحدهم. بالطبع من الممكن أن أحكي عن ثورات كثيرة, وفي أوقات كثيرة كان الزحف الطويل لماوتسي تونج وكتابه الأحمر عناوين لرومانسية الثورة الصينية. ولكن ما يهمني هو ما جري ويجري لثورة يناير المصرية وهل هي قابلة للتحول من الرومانسية والأحلام العظمي إلي واقع مروع وكوابيس مرعبة؟. وقد لفت نظري التحليل الذي قدمه للثورة الصديق الدكتور مصطفي الفقي في لقاء مع الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء عندما ذكر أن ثورة يناير مرت بموجات سوف أعددها بتصرف من عندي: الأولي كانت الشبابية التي أشعلت الثورة انطلاقا من مواقعها علي الإنترنت والفيس بوك وهذه كانت منضبطة ورومانسية في أحلامها وتطلعاتها الديمقراطية والتقدمية. والثانية عندما انضم إليها شباب الأحزاب والقوي السياسية الأخري وخاصة الإخوان المسلمين وهذه هي التي حملت تاريخها وأيديولوجيتها وعقدها أيضا إلي خيمة الثورة. والثالثة جاء إلي الثورة كافة الجماعات ذات المطالب الفئوية وهذه تراوحت مطالبها ما بين المال, والفكرة الدينية كما كانت الحال مع الجماعات السنية. والرابعة عندما انضم إلي جماهير الثورة التي باتت بالملايين المساجين السابقون وأصحاب السوابق والمسجلون خطرا وباختصار كل من يخاف منهم المجتمع. وانتهي التحليل بالتحذير من الموجة الخامسة عندما تنضم العشوائيات إلي صفوف الثوار; فثورة الجياع لم تأت بعد, أو هكذا قال صاحبنا. الثورة المصرية إذن كما حدث مع كل الثورات التي سبقتها فقدت رومانسيتها وأيامها الطيبة الأولي مع توالي الأجندات التي دخلت عليها; ومع ظهور الأمراض المجتمعية التي كانت موجودة, وساد الظن بفعل الرومانسية, أن نيران الثورة في الصدور قد طهرتها, ودماء الشهداء العظام قد خلصتنا منها. وهكذا سادت الدهشة العظمي من عودة التحرش بالنساء, والفتنة الطائفية الدامية في أطفيح وصول, والمطالب الفئوية التي لا تتناسب مع القدرات أو الموارد والتي وصلت في أكثر لحظاتها تراجيدية إلي أن موظفي الضرائب طالبوا بالحصول علي5% منها لأنفسهم مما حدا بوزير المالية الدكتور سمير رضوان للتساؤل عما إذا كان ذلك سوف ينطبق أيضا علي إيرادات قناة السويس, وأضيف من عندي البترول والثروة المعدنية؟! عاد المجتمع إلي حالته الأولي, وكان طبيعيا أن يعود لأن ما كان به من أمراض لا يخلصها مظاهرات في ميدان التحرير حتي لو جرت الاستعانة بالفزاعة الجديدة لفلول الحزب الوطني الديمقراطي ومباحث أمن الدولة. وكم كان مدهشا أن يقال ذلك في أول اجتماع بين حكومة الثورة الجديدة والإعلام والكتاب والمفكرين بينما الواقع هو أن13 وزيرا من الوزارة الجديدة ينتمون إلي الجناح الإصلاحي والديمقراطي في الحزب والذين طالما سعوا من أجل نفس أهداف الثورة خاصة في أصولها الديمقراطية والمدنية بوسائل متنوعة حتي باتت نتيجة الكلام كما لو كان الحزب الوطني, أو فلوله, تقود الثورة والثورة المضادة في آن واحد. وكانت الدهشة واقعة أيضا حينما كان واضحا لكل عقل أن الخلاص من الجريمة والبلطجة والعنف لن يكون ممكنا ما لم تتم إعادة بناء أجهزة وزارة الداخلية بما فيها مباحث أمن الدولة بحيث تقوم بمهمتها الأصلية في مقاومة الإرهاب والتجسس; كان التسامح جاريا مع كل ما يمزق القدرة المادية والمعنوية لأجهزة الأمن العام. كل ذلك لا يعني بالطبع التهاون مع الجرائم المحددة, والتعذيب المنظم, والمطاردة الظالمة, التي كان يقوم بها أعضاء من جهاز أمن الدولة ضد المواطنين, أو أن يجري تهاون مع قواعد ونظم وضعت ليس فقط من النظام السابق, وإنما مع خطيئتها الأصلية التي جرت في كل العصر الجمهوري. المسألة هكذا باتت واضحة, والمرحلة الرومانسية من الثورة قد وصلت إلي نهايتها, وعصر البراءة عادة ما يفضي إلي عهد جديد من النضج والرسوخ الذي يبدأ بالتعامل الواقعي مع الحقائق كما هي وليس كما نتصورها, ومع الوقائع وليس كما نتخيلها. وكلما أسرعنا بذلك, كانت القدرة أكبر علي التعامل مع متغيرات ظننا أنها راحت إلي غير رجعة. وما نحتاج إليه هو بناء ديمقراطي يقيم نظاما سياسيا يقوم علي المواطنة الصحيحة; وبناء تنمويا يستطيع الدفع بنا في خطوات سريعة إلي الأمام إلي حيث توجد الدول المتقدمة, وبناء اجتماعيا يقوم علي الاعتراف بالآخر, واللحاق بالعالم, واستيعاب العلوم والتكنولوجيا في كل أنحاء الوطن وليس في بعض منه. هذه المهمات تحتاج عملا شاقا يبذل فيه العرق بنفس القدر الذي يبذل في المظاهرات المليونية التي يجب أن تكون دوما حارسة علي أن كلا من هذه الأبنية يجري في الاتجاه الصحيح; ولكنها لا تكون عائقة أمامها. هذا هو المسار, وما عدا ذلك سوف نجده في التجارب التاريخية المشار إليها, فإما تخرج الثورات من رومانسيتها وبراءتها إلي العمل والبناء, أو تجري في مسار آخر لا يمكن التنبؤ به الآن ولكن التاريخ يدلنا عليه بوضوح وصفاء. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد