كلنا شهود علي أن الرئيس السابق( أو المخلوع) حسني مبارك أضاع فرصا كثيرة لدخول التاريخ لو أنه امتلك الحس والرؤية لقيادة تحول ديمقراطي في مصر, ينتهي بتقاعده معززا مكرما, ولكن الرجل كان يسخر ممن ينبهه إلي تلك الفرص في مناسباتها وأثر عنه قوله المستهين بهذه النصائح إنه لايريد تاريخا, ولا جغرافيا, ولعله اليوم أدرك المعني الحقيقي لسقوطه, والمعني الذي نقصده هو أن التاريخ يعصف بمن يقف في طريقه متصلبا معاندا تطبيقا لمقولة فيكتور هوجو: إن كل جيوش العالم لا تستطيع ان تهزم فكرة جاء زمانها. واليوم أتمني أن يقرأ مبارك هذه السطور أو أن يقرأها له أحد أو ينبهه إليها من الدائرة القريبة منه حاليا, فالرجل أمامه آخر فرصة للعودة الي التاريخ ولو من الباب الخلفي عن طريق خدمة جليلة يقدمها لوطنه ونفسه ولأسرته وهذه حقا وصدقا هي فرصته الأخيرة بحساب العمر الذي لا يعلم كم بقي له منه إلا الله, وبحساب السياسة لأن الرجل أصبح ماضيا غير مأسوف عليه. مطلوب من الرئيس مبارك أنه يخصص مابقي له من العمر لكتابة وصية سياسية تنشر علي الرأي العام, وتقدم للحكام المقبلين لمصر وللسياسيين المصريين عموما دروس تجربته, وأين يعتقد أنه أصاب؟ وأين يعتقد أنه أخطأ؟ ولنتذكر أن هذه هي أول مرة في تاريخ مصر الحديث تحصل فيها البلاد علي شرف وجود رئيس سابق أو معزول بإرادة شعبية يعيش علي أرضها وأن آخر رئيس دولة سبقه الي الخلع أو العزل بمباركة الشعب كان الملك فاروق, ولكنه نفي, كما أنه لم يكلف خاطره كتابة مثل هذه الوصية إلا أن عدم إقدام فاروق علي مثل هذه الخطوة الشجاعة كان مفهوما, فهو لم يكن رجلا جادا ولا شجاعا في حين أن مبارك يفترض فيه أنه جاد وشجاع بغض النظر عن رأينا السلبي في رئاسته حتي من قبل ظهور مؤامرة التوريث. إذ يسجل كاتب هذه السطور أنه لم يؤيد الرئيس مبارك طوال الثلاثين عاما إلا في أربعة مناسبات تتعلق كلها بالسياسة الخارجية, هي وعندما أعاد العلاقات مع الدول العربية وعندما رفض الضغوط الأمريكية والأوروبية لتوقيع معاهدة حظر وانتاج وتخزين الأسلحة الكيماوية حتي توقع اسرائيل علي معاهدة حظر الانتشار النووي عندما قرر رفض التوقيع علي قرار المد اللانهائي لمعاهدة حظر الانتشار النووي, مالم تنضم إليها اسرائيل, أما الأخيرة فكانت رفضه دخول أي حرب لأسباب غير مصرية وبقرار غير مصري.. عذرا عن هذا الاستطراد الذي يبدو شخصيا ولكنه ايضا يظهر ان مبارك يمكن أن يكون شجاعا إذا أراد, وهنا لابد من تحفظ يبرز الفارق بين الشجاعة والعناد, ونحن هنا نطالبه أن يتحلي بأقصي الشجاعة لكي يكتب وصيته السياسية, ونقترح عليه أن يبدأها بشرح رؤيته لدوره كرئيس لمصر منذ أن اختير نائبا لرئيس الجمهورية وبفهمه لمصر ذاتها كمجتمع وكنظام حكم وكدور إقليمي, وأن يشرح الأهداف التي كان يتوخاها وتلك التي نجح فيها, ولماذا نجح؟ والأخري التي أخفق في تحقيقها, ولماذا أخفق؟ وعلي الرئيس السابق أيضا أن يقول لنا ماذا تعلم من الرئيس السادات مباشرة؟ وبماذا أوصاه تحديدا في إدارة الحكم في الداخل وإدارة العلاقات الدولية في الخارج؟ ومن هم هؤلاء الأساتذة الذين تولوا إعداده لمهمته منذ أن ترك قيادة القوات الجوية إلي نيابة رئاسة الجمهورية؟ وكيف شكلوا وعيه بمصر وبالعالم وبدوره, وأحسب شخصيا أن بعضهم مسئول عن عدم اقتناعه بالديمقراطية, وبما كان يسميه لغو المثقفين عن التاريخ والدور الإقليمي لمصر. ويجب علي مبارك في كتابته لوصيته المقترحة أن يعترف صراحة بآرائه السلبية في مصر, وفي المصريين لو أنه كانت لديه فعلا مثل هذه الأراء, لأن المتداول عنه من كثيرين ممن اقتربوا أنه كان يقول دائما: إن مصر بلد ثقيلة ولا فائدة من محاولات الإصلاح فيه والديمقراطية لا تصلح له, وأن أفضل طريقة لحكمه هي مايفعله.. وأقسم أنني سمعت هذا من صديق مقرب له ومن عضو بارز في أمانة سياسات الحزب الوطني المدحور. كذلك مطلوب من الرئيس السابق أن يحكي في وصيته قصة التوريث كاملة: هل هي من بنات أفكاره؟ أم أنه رضخ لضغط الزوجة والابن؟ أم أشار عليه به آخرون؟ ومن ساندها ؟ وكيف تعهدوا له بتمريرها وماذا فعل وماذا كان ينوي أن يفعل هو بالضبط لكي يفرض الوريث علي المصريين؟ وماهي العقبات التي كان يخشي منها؟ وماهي الأساليب المشروعة وغير المشروعة التي لجأ إليها لتذليل هذه العقبات. ونأتي إلي موضوع ثروة الرئيس وأبنائه وزوجته ويتصل به بالطبع موضوع الفساد الذي كان منهجا منظما لسنوات حكمه منذ بدايتها وليس في السنوات الأخيرة فقط كما يشاع, وبداية فلا يغني ولا يسمن من جوع لمعرفة الحقيقة ذلك البيان السقيم الذي خرجت به علينا العائلة منذ أيام علي لسان محاميها لتنفي الأرقام التي تداولتها الصحف حول الثروة وحساباتها المصرفية هنا وفي الخارج, ففي مثل هذه الحالات لا يكفي القول بأن مايتردد ليس صحيحا, وإنما المطلوب إعلان ماهو الصحيح. بمعني أن عليه أن يقول بصدق من هو علي أعتاب لقاء الله ماهي الأرقام الحقيقية لثروته أو ثروة أبنائه وزوجته ومن أين جاءت؟ ثم نطالبه بأن يمتلك أيضا شجاعة إعادة هذه الأموال إلي الدولة مقدمة لطلب الغفران من الله والشعب, وتسهيلا لبقاء أسرته في المستقبل بيننا مالم تثبت علي أحد منهم جرائم أخري. ولابد أيضا من أن تحتوي الوصية علي رأيه في الرجال الذين أحاطوا به أو الذين عملوا معه ولماذا أدخل من أدخل؟ ولماذا أخرج من أخرج؟ ولابد أن يتحدث بعد ذلك عن طريقته في صنع القرارات الخاطيء منها قبل الصحيح وليكشف عن الشخص أو الجهة التي زودته بأسس القرار الخاطيء وأسس القرار الصائب. الرجل مطالب أيضا بأن يكشف لنا ولمن سيحكمون في المستقبل أسرار علاقاته الدولية التي لا تمس الأمن القومي وآراءه الحقيقية في الدول والقادة عربا وعجما ومن منهم كان مخلصا في نصائحه ومن منهم كان ولايزال لايفكر إلا في مصلحة بلاده علي حساب مصالحنا؟. ولن تكتمل وصية مبارك لبلاده إلا بالسرد الأمين لمجريات الأمور منذ بدأت الثورة المجيدة التي أطاحت به, وماذا كان يعلم عنها؟ ورؤيته للتعامل معها وكيف اتخذت القرارات في تلك الفترة ومن شارك في صنع تلك القرارات خاصة قرار إطلاق النار الحي علي الشباب في جباههم وصدورهم? وأفترض أن الشجاعة والخوف من لقاء الله يحتمان عليه أن يعترف علي نفسه, وعلي أي من أفراد أسرته إذا كان هو الفاعل أو كانوا هم الفاعلون؟ لأن الحقيقة سوف تعرف عما قريب ولن ينجو من المحاكم أي من مرتكبي هذه الجريمة, وليختتم الرئيس السابق اعترافاته في وصيته المقترحة باعلان أسرار اليومين الأخيرين وكيف تراجع عن التنحي يوم الخميس10 فبراير وكيف قرر أو أكره علي التنحي في اليوم التالي? وليعترف في هذا السياق أيضا بمعلوماته عن محاولة اغتيال نائبه المعين وقتها عمر سليمان. أما الفصل النهائي في وصية مبارك لبلاده إذا استجاب لمطلبنا واغتنم آخر فرصة يقدمها التاريخ والوطن فيجب أن يحتوي علي نصائحه المخلصة لكيفية حكم مصر وتقدمها وأمنها بناء علي تجربته الطويلة ؟ومحنة اكتشاف أن أمضي ثلاثين عاما رئيسا دون أن يشغل نفسه يوما بما إذا كان هذا الشعب راضيا أم غير راض عنه. ولو أنني كنت مكانه لبدأت هذاالفصل الأخير بالآية الكريمة: إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم صدق الله العظيم المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد