هذا المقال هو الأول من سلسلة مقالات أعتزم طرحها عن مختلف جوانب اقتصادنا الوطني, بهدف تقديم عدد من المقترحات الساعية إلي تطوير الأداء الاقتصادي في هذه المرحلة المهمة من تاريخ بلدنا, في إطار اقتناع كامل بأن اقتصادنا يملك من العناصر الإيجابية ما يفوق كثيرا تلك السلبية التي يحرص العديدون علي إبرازها هذه الأيام مرارا وتكرارا. فقد سألني الكثيرون منذ عدة أشهر وقبل اندلاع ثورة25 يناير عن أسباب تذبذب أداء البورصة المصرية وجنوحها في معظم الأحيان إلي الاتجاه السلبي, ولقد كانت إجابتي دائما عن أن عدم وضوح الآفاق السياسية المستقبلية, خاصة فيما يتصل بمستقبل شكل الحكم يوجد درجة عالية من عدم اليقين لدي الأوساط الاقتصادية بما يؤثر حتما علي أداء البورصة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية الأخري, فبرغم أن الاقتصاد المصري حقق أرقاما مؤثرة علي صعيد معدلات النمو فإنه اتسم بعدم الإنتاجية وعدم الاستدامة علي المدي الطويل لاعتماده أساسا علي القطاع الاستهلاكي, فبرغم أن معدلات النمو المعلنة جاءت كبيرة, فإن الفئات التي استفادت منها كانت محدودة للغاية, مما أدي إلي تواصل ارتفاع معدلات البطالة وبشكل عام لم تنجح السياسات الاقتصادية في الوفاء بمسئوليتها الاجتماعية, أو دفع المجتمع الاقتصادي والاستثماري وفق معايير رأسمالية رشيدة. ولكنني الآن في هذه المرحلة بالذات أشعر بالتفاؤل, فالحد الفاصل بين الفقر والغني في مختلف الدول هي قدرتها علي إدارة اقتصادها بكفاءة, ونحن في مصر ومع حكومة جديدة نتطلع بالأمل إلي أن تتفادي هذه الحكومة أخطاء سابقاتها للوصول باقتصادنا إلي مسار النمو المستدام, كما أني علي يقين أن القطاع السياحي سيستعيد عافيته بشكل أسرع مما نتصور, فتجربة الأقصر ليست ببعيدة حيث لم تستغرق آثارها السلبية أكثر من ستة أشهر, وكل الخسائر الأخري والبلايين التي خرجت من البلاد نتيجة لبيع أذون الخزانة, وكذلك خسائر البورصة يمكن استعادة معدلاتها بسرعة وسهولة, بل ومضاعفتها أيضا, فالبورصة في نهاية المطاف هي انعكاس لمستوي الأداء الاقتصادي في البلاد ليس في هذه المرحلة وحدها, وإنما بشكل أكثر أهمية بالنسبة للتوقعات الاقتصادية المستقبلية. ولكن والحكومة في سعيها للتعامل بإيجابية مع مقتضيات توفير المناخ للنمو المستقبلي عليها مسئوليات موازية في مجالات أخري في مقدمتها العمل علي القضاء علي نمو عجز الموازنة, والحكومة تقترض الآن لتمويل هذا العجز بما يضغط علي الاستثمارات الخاصة, والبنوك تعاني محدودية الموارد, فإذا استخدمت الودائع لديها لتمويل العجز فهذا معناه خفض حقيقي لقدرة البنوك علي الإقراض, وبالتالي ضعف القدرة علي توفير الائتمان للقطاعات الإنتاجية ودوران عجلة الاقتصاد. وإذا طالبنا بنظرة فاحصة للموازنة العامة باعتبارها شكلا من أشكال الحساب الختامي للشركات نجدها تنقسم إلي جانبين هما العوائد والنفقات. ففي هذه الفترة وللمدي قصير الأجل ستكون موارد الدولة محدودة بالطبع نتيجة انخفاض عائدات السياحة بصورة رئيسية, فلنتحدث إلي الناس ونواجههم بالحقائق, وهذه مسألة سياسية أيضا تتسم بالحكمة, فعندما تأتي في وسط موجة من العجز لترسم صورة وردية عن الاقتصاد المصري, فالناس يتساءلون بوعي لماذا لا يحصلون علي مميزات هذه الصورة الوردية؟. فالناس في حاجة أيضا ليفهموا أن الحكومة لا تستطيع تحقيق متطلباتهم الآن وبشكل كلي في ظل محدودية الموارد إلي أن تواصل عمليات النمو. إن قرار زيادة الأجور بنسبة15% برغم مخاطره بالنسبة لزيادة التضخم, فإنه يبدو أنه كان ضرورة سياسية ولكن علينا أن نحدد من أين تأتي هذه الزيادات في الرواتب. في هذه المرحلة المبكرة من السعي لمواجهة العجز المتزايد في الموازنة العامة, فإن المهمة الأولي التي تتسم بالمصداقية, ويمكن اتباعها هي تقليل الفاقد وخفض النفقات في ظل اقتناع حقيقي بعدم وجود أحكام مطلقة لكل شيء مثل مقولة إنه لا مساس بالدعم, برغم أنه من وجهة نظر اقتصادية رشيدة هو العنصر الأول الذي يجب التعامل معه في دولة تنفق100 بليون جنيه في هذا المجال ومعظمها يذهب إلي دعم الطاقة, الذي من المتوقع أن يفوق هذا العام85 بليون جنيه بما يشك خمسة أضعاف ما يتم إنفاقه علي دعم الخبز أو الرعاية الصحية. دعك الآن من دعم البنزين العادي والديزل حيث يؤثر علي الطبقات محدودة الدخل ونفقات نقل البضائع, ولكنني أتحدث كما فعلت في مقالة سابقة عن أهمية أن تقوم الحكومة بإزالة الدعم عن البنزين95 و92, أصحاب هذه السيارات ليسوا في حاجة إلي هذا الدعم ولن تؤثر إزالته علي مستوي التضخم لأنه لا يستخدم في نقل البضائع أو الخدمات, وبنظرة أخري إلي القطاع الصناعي الذي تتمتع بخفض ضريبي من42% إلي20% بشكل قطعي, وهذه الخطة تم اتخاذها لزيادة الوعاء الضريبي, وهو ما نجحت فيه بالفعل, ولكن عندما تفعل ذلك فعلي الحكومة في المقابل أن تلغي الدعم عن أسعار الطاقة التي تستخدمها هذه المصانع, فأصحاب هذه المشروعات يستفيدون من الدعم, وفي الوقت نفسه من خفض نسبة الضرائب, ولكنهم في الوقت نفسه يبيعون منتجاتهم وفقا للأسعار العالمية, وهذه المعاملة تشكل جانبا من جوانب الفاقد الاقتصادي, بالإضافة إلي ما تمثله من حافز سلبي علي إنتاجية هذه المشروعات, وقد يعارض البعض بأن إزالة هذا الدعم سيؤثر سلبا علي أرباح هذه الشركات وعلي حقوق العاملين بها, ولكن ومع الأخذ في الاعتبار أكثر الصناعات استهلاكا للطاقة فإن تكلفتها لا تتجاوز15% من جملة تكاليف مستلزمات الإنتاج, فإن تضاعفت أسعار الطاقة بالنسبة لهم فلن تتأثر معدلات نموهم بأكثر من2%, بل إن من وجهة نظر أخري قد يشكل تسعير الطاقة في صورة عادلة حافزا لدي هذه المنشآت للقضاء علي الفاقد بها وتطوير قدرتها التنافسية. إن الموازنة العامة تعاني من ضغط حقيقي والمشكلة في التعامل مع الدعم بشكل عام تستوجب كشف حقيقة هامة يسعي الكثيرون الي اخفائها وهي ان معظم هذا الدعم يذهب إلي من لايحتاج إليه, أيضا علينا أن نفهم أن المجتمع كله يتحمل تبعات هذا الدعم, أي أن بعض من يستحقون الدعم بالفعل يتحملون أعباء تقديم هذا الدعم إلي من لايستحقونه. ان السياسات التي تتسم بمراعاة المسئولية الاجتماعية لاتعني العودة إلي النظام الإشتراكي ولكنها ضرورة لتطوير واستقرار النشاط الاقتصادي علي المدي الأطول.