مستشفى 15 مايو التخصصي ينظم ورشة تدريبية فى جراحة الأوعية الدموية    الفراخ البيضاء اليوم "ببلاش".. خزّن واملى الفريزر    اليوم، رئيس كوريا الجنوبية يلتقي السيسي ويلقي كلمة بجامعة القاهرة    اليوم.. محاكمة المتهمة بتشويه وجه عروس طليقها فى مصر القديمة    تحذير عاجل من الأرصاد| شبورة كثيفة.. تعليمات القيادة الآمنة    اليوم.. عرض فيلم "ليس للموت وجود" ضمن مهرجان القاهرة السينمائي    شاهد، أعمال تركيب القضبان والفلنكات بمشروع الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    ترامب يرغب في تعيين وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيسا للاحتياطي الاتحادي رغم رفضه للمنصب    أخبار فاتتك وأنت نائم| حادث انقلاب أتوبيس.. حريق مصنع إطارات.. المرحلة الثانية لانتخابات النواب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    محمد أبو الغار: عرض «آخر المعجزات» في مهرجان القاهرة معجزة بعد منعه العام الماضي    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    أرسنال يكبد ريال مدريد أول خسارة في دوري أبطال أوروبا للسيدات    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
لقاء مع فاتسلاف كلاوس
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 02 - 2010

لم تكن هي المرة الأولي التي أزور فيها العاصمة التشيكية براغ‏,‏ وما كانت هي المرة الأولي التي أزور فيها بلدا كانت فيه درجة الحرارة ساعة خروجي من المطار أقل سبع درجات من الصفر مئوية‏. وقبل أن يأتي المساء كانت البرودة قد أصبحت سبع عشرة درجة تحت الصفر‏.‏ ولكن الفارق كان كبيرا بين الزيارة الأولي في مطلع القرن حيث كنا في قلب الربيع من شهر مايو‏,‏ وكانت القلعة التي ذهبنا إليها‏-‏ حيث يوجد قصر الرئاسة التشيكية‏-‏ يسكن فيها شخصية أسطورية هي فاتسلاف هافل الكاتب المسرحي التشيكي الشهير‏,‏ وواحد من كبار المنشقين الذين باتوا من الأعلام خلال فترة الهيمنة السوفيتية علي وسط وشرق أوروبا‏,‏ وعندما آن الأوان وانهارت الإمبراطورية كان هو وأمثال ليش فاونسا‏-‏ زعيم حركة التضامن البولندية‏-‏ هم الذين وقع عليهم اختيار التاريخ لبناء دول جديدة من ركام تجربة كانت في طريقها إلي ملفات التاريخ‏.‏
كان هؤلاء جماعة المناضلين من أجل الحرية الذين كانت عليهم مواجهة سطوة دولة متحكمة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة بالطبع‏,‏ وفوق ذلك كله خرجت منها ثقافة متكاملة تقوم علي اعتماد الأفراد علي الحكومة من المهد إلي اللحد‏,‏ وفيها قدر قليل من القنوط وعدم الثقة والشك في قدرة الإنسان علي التغيير والانطلاق إلي آفاق رحبة كان العالم قد وصل إليها في مجتمعات أخري غربية وغير غربية‏.‏
المرة الأولي كانت في صحبة بعثة الأهرام بقيادة الأستاذ إبراهيم نافع‏,‏ وكان السؤال هو ما الذي جري في وسط وشرق أوروبا بعد عقد من سقوط حائط برلين والتحول الكبير الذي جعل دول هذه المنطقة تذهب زرافات ووحدانا إلي الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي لحاقا والتصاقا بالعالم الذي طال الحرمان منه‏;‏ أو لأنه بدا كالضامن الوحيد لدول أضناها وأخذت منها السطوة الروسية أو القبضة الألمانية؟‏.‏
هذه المرة جاءت الدعوة من الحكومة التشيكية لإجراء مجموعة من المقابلات الصحفية بالمشاركة مع شبكة الأوربت التليفزيونية تمهيدا للزيارة التي سيقوم بها الرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس إلي القاهرة للقاء مع الرئيس مبارك‏,‏ وافتتاح استثمار تشيكي مهم‏,‏ وإشهار الطبعة العربية من كتابه الكوكب الأزرق في قيود خضراء‏;‏ من الذي في خطر‏:‏ المناخ أم الحرية؟‏.‏ وعندما وقفت في البقعة ذاتها من القلعة التي وقفت فيها مع رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير الأهرام الأسبق منذ سنوات‏,‏ لم يكن الطقس فقط هو الذي تغير ما بين الربيع والشتاء‏,‏ وما كان المشهد الأخاذ لمدينة براغ بورودها الفيحاء واخضرارها الخاطف للعيون وقباب كنائسها وقصورها وعمارتها قد انقلب الآن ملتحفا بالثلوج‏;‏ فيكون البياض في الأرض وزرقة السماء وما بينهما من معمار بديع لوحة أخري من الجمال‏.‏ ولكن ما تغير حقا هذه المرة هو أن القصة نفسها قد تغيرت‏,‏ فحادثة الانقلاب من الشيوعية إلي الرأسمالية‏,‏ أو من التحالف الشرقي إلي التحالف الغربي‏,‏ لم تعد هي القصة‏,‏ وإنما باتت الحكاية هي كيف جري التحول من دولة متخلفة‏-‏ أقرب إلي العالم الثالث من العالم الأول‏-‏ إلي دولة متقدمة‏,‏ ومن دولة يعتمد شعبها في كل شيء علي الدولة إلي دولة تعتمد في كل شيء علي المبادرة الفردية‏!.‏
الاختلاف الحاد كان في شخصية فاتسلاف هافل الحالم المثالي‏,‏ والمناضل السياسي من أجل حرية الإنسان‏,‏ إلي فاتسلاف كلاوس الاقتصادي بالمهنة‏,‏ والسياسي بالممارسة‏,‏ والمفكر طوال الوقت بحيث ينتج أفكارا تختلف مع الحكم الذائعة والشائعة فتكون الشجاعة هذه المرة ليست في مواجهة الحكم وإنما في مواجهة الجماعة‏.‏ والغريب أن كليهما هافل وكلاوس رغم تباعد الشقة بينهما عملا معا‏,‏ الأول في مكانته رئيسا للجمهورية‏,‏ والثاني في مواقع متعددة وزيرا للمالية ورئيسا للوزراء ورئيسا لمجلس النواب من أجل دولة التشيك‏,‏ مرة عندما كانت جزءا من تشيكوسلوفاكيا‏,‏ ومرة بعد أن جري الانفصال المخملي أي بدون نقطة دم واحدة بين التشيك والسلوفاك‏.‏
الحقيقة أنه لم يكن قد مضي وقت طويل علي الصورة التي تجسد حالة الرئيس عندما وقع في‏3‏ نوفمبر الماضي مصدقا علي اتفاقية لشبونة للاتحاد الأوروبي التي تدعم من الحالة الاتحادية الأوروبية‏;‏ وهو الواقع الذي رفضه كلاوس بينما كانت كل المؤسسات التشيكية قد وافقت عليها وآخرها المحكمة الدستورية العليا التي حكمت بأن الاتفاقية لا تتعارض مع الدستور التشيكي‏.‏ خضع الرئيس لرغبة الشعب وسلطة المؤسسات وهو يرتدي رابطة عنق سوداء‏,‏ وبعد التوقيع صدر تصريحه الشهير ابتداء من هذه اللحظة‏,‏ فقدت بلادنا سيادتها‏.‏ مثل هذه اللحظة‏,‏ وهذه الكلمات تبدو صادمة لكثيرين منا ينظرون مثلي بإعجاب للتجربة الأوروبية في التكامل والوحدة‏;‏ بل حتي إنهم ينتقدون موقف كلاوس من المعاهدة كما فعل كثير من التشيك والأوروبيين الذين رأوه عقبة في وجه التقدم الأوروبي‏.‏ ولكن مع ذلك تبقي هذه اللحظة مثيرة للإعجاب عندما يكون علي الإنسان‏,‏ حتي رئيس الجمهورية‏,‏ أن يقول ما يعتقده صحيحا‏,‏ ولكنه بعد ذلك يخضع لموقف الجماعة ومؤسساتها‏.‏
كنت أعرف كل ذلك وأنا أسير في طرقات قصر الرئاسة التي عرفتها وشاهدت لوحاتها من قبل في طريقي إلي لقاء الرئيس‏,‏ وبينما كان لقاؤنا الأول بالمشاركة مع الأستاذ إبراهيم نافع في مكتب الرئيس الخاص‏,‏ حدث هذه المرة في حجرة خاصة أنيقة بالمشاركة مع الأستاذ جمال عنايت وطاقم تليفزيوني‏.‏ وبالطبع كان لدي الكثير من الأسئلة‏,‏ فلم تكن التجربة التشيكية معبرة عن نفسها فقط‏,‏ وإنما عن عملية تحول ضخمة وهائلة حدثت في وسط وشرق أوروبا‏,‏ تقف وحدها في موضع المقارنة مع عمليات تحول أخري حدثت في العالم كله حيث حدث التغير السياسي الكبير أولا ثم أعقبه التحول الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بسرعة هائلة‏,‏ وكان ذلك علي عكس ما حدث في آسيا عندما كانت البداية بالتحول الاقتصادي‏,‏ ومن بعده بدأت التغيرات السياسية التي وصلت إلي المشارف الديمقراطية في بلاد‏,‏ وبقيت الديمقراطية بعيدة في حالات أخري‏.‏
تفاصيل اللقاء‏,‏ وما جري فيه من أسئلة وأجوبة لا تسمح المساحة بنشرها جميعا‏,‏ ولكن التساؤل عن التحول كانت إجابته ملخصة في عبارة واحدة وهي أن دولة التشيك صارت دولة أوروبية عادية بمعني أنها يجري عليها ما يجري علي دول أخري من قوانين الطبيعة والسوق والدورات المزاجية المختلفة‏.‏ في هذه الحالة العادية‏-‏ أي تلك التي لا يوجد فيها أوضاع استثنائية أو حالات تميز أو تمييز خاصة فأهم ما يميز الدول هو القدرة علي التنبؤ‏,‏ ورسم المسارات‏,‏ والتحولات الكبري والصغري‏.‏
المدهش أن الرئيس التشيكي لم يقل كلمة واحدة عن ارتفاع دخل المواطن التشيكي حتي بات‏25‏ ألف دولار في العام‏,‏ ولم يأت علي لسانه حديث عن طرق أو مدارس أو جامعات أو مشروعات ضخمة‏,‏ كانت المسألة واضحة في ذهنه تماما‏,‏ وهو المهندس الحقيقي لعمليات التحول الكبري في بلاده‏,‏ وهي أن تصبح دولة التشيك دولة أوروبية عادية‏.‏ كان الرجل ببساطة يريد لبلاده أن تكون قطعة من أوروبا‏,‏ كما كان حلم الخديو إسماعيل باشا لمصر في ستينيات القرن التاسع عشر‏,‏ وبالطبع كان كلاوس يعرف أن جمهورية التشيك هي جزء جغرافي من أوروبا‏,‏ ولكن القضية لم تكن الجغرافيا‏,‏ ولا حتي التاريخ‏,‏ وإنما كانت المعني والقيمة والنظام والمؤسسات والفكر‏.‏
لم يكن توضيح الحالة العادية لجمهورية التشيك يغني عن السؤال كيف؟ وفي السؤال تجمعت أسئلة كثيرة مستمدة كلها من الأدب السياسي المصري الشائع حول نقطة البداية وهل هي السياسة أم الاقتصاد‏,‏ وفي السياسة كيف يكون بناء المؤسسات وتوازناتها‏,‏ وفي الاقتصاد متي تكون الخصخصة‏,‏ وهل الرأسمالية ضرورة لقيام المؤسسات التي تنظمها أم أن المؤسسات لا بد منها أولا حتي تحمي الرأسمالية من نفسها؟‏.‏
لمحت علي وجه الرجل ابتسامة‏,‏ وكأنه وجد أمامه أسئلة يعرفها كلها‏,‏ بل قال ذلك صراحة ولكن بعد أن نسبها للمثقفين والإعلاميين‏;‏ وجاءت الإجابة بسيطة وهي أن عملية الإصلاح لا بد أن تبدأ في كل الجبهات في كل الوقت‏,‏ ولا يوجد إصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي‏,‏ ولا يوجد اقتصاد سوق دون مؤسسات‏,‏ ولا توجد المؤسسات حقا دون اقتصاد سوق تتعامل معه‏.‏ ولما سألت عن آلام تلك‏,‏ وأوضاع الاضطراب التي قد تخلقها‏,‏ لم ينفها‏,‏ ولكنه قال إن الناس تعرف كل شيء‏,‏ وسوف تكون لديهم القدرة علي فهم العقبات‏.‏ المسألة هنا‏,‏ كما قال‏,‏ هي أن هذه المجالات تتفاعل مع بعضها البعض‏,‏ وهي تقوم بدور مضاعف الدفع والتعبير من عندي كما فهمت عبارات الرجل يحقق التقدم خلال فترة معقولة من الزمن‏.‏ وكان ذلك في الحقيقة هو ما حصل عليه جيل واحد من التشيك حينما خرجت دولتهم من العباءة الشمولية الاستثنائية للشيوعية إلي الفضاء الأوروبي الرحب حيث يعيش الناس في حياة يعرفون أولها وآخرها‏,‏ نظمها وقواعدها‏,‏ وباختصار مواطنة تجعل الحياة عادية‏.‏
وبالطبع كان موضوع أوروبا ملحا بشدة منذ البداية لأن كلاوس كان معرضا لانتقادات حادة‏,‏ وكان مدهشا أنه في الوقت الذي حدث فيه هجوم كثيف علي أفكاره الاقتصادية والبيئية‏,‏ فإن الشعب التشيكي انتخبه مرة ثانية وأخيرة في عام‏2008,‏ حتي وهو يؤيد أمورا كثيرة لا يقبلها الرئيس‏.‏ وعندما سألته عن موقفه من التوقيع علي اتفاقية لشبونة‏,‏ بل موقفه من الاتحاد الأوروبي كله‏..‏ بدا لي الرجل يعاني من مأزق فكري وضميري حاد يعود في جوهره إلي حالة دولة التشيك ذاتها التي لا يزيد عدد سكانها كثيرا علي‏10‏ ملايين نسمة‏,‏ وتقاذفتها القوي الأوروبية الكبري طوال التاريخ غزوا أو خداعا‏,‏ وها هي قد خرجت لتوها من عباءة دولة عظمي حررتها من الاحتلال الألماني ثم استعبدتها لعقود تالية ثمنا لهذا التحرير‏.‏ وعندما جاء وقت ربيع براغ عام‏1968‏ كانت الدبابات السوفيتية هي التي جاءت بالغزو الثاني للدولة‏,‏ حتي تم التحرير في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين‏.‏ فهل بعد ذلك كله تتقدم الدولة التشيكية طوعا وتضع نفسها تحت عباءة دولة مسيطرة أوروبية واسعة القدرة وهائلة القوة أيضا‏.‏
لم يكن ذلك هو ما قاله الرئيس بصريح العبارة‏,‏ ولكنه كان واقعا بوضوح تحت كلماته التي بدا فيها مستسلما لحقيقة اللحاق بأوروبا ربما لضرورات استراتيجية وتاريخية واقتصادية‏,‏ ولكنه كان متشككا في الخطوات والسرعة التي تجري بها عملية التوحيد الأوروبية‏.‏ بعبارة أخري يري كلاوس أن معاهدة لشبونة سوف تؤدي في المقام الأول إلي تكريس وتقوية مركزية القيادة في مقر الاتحاد الأوروبي ببروكسل لصالح بعض المؤسسات التي تحاول تقليص صلاحيات الحكومات لتحقيق بعض أهدافها‏,‏ وسوف تمكنها الاتفاقية من اتخاذ قرارات سيادية تستطيع فرضها علي الدول التي ستكون عاجزة في هذه الحالة عن رفضها أو عدم الالتزام بها‏.‏ فضلا عن ذلك‏,‏ فإن عامل الوقت يبدو مهما جدا لتقييم التجربة وتداعياتها المحتملة‏,‏ فوصول تجربة التكامل الأوروبي إلي نهايتها وغاياتها في وقت مبكر جدا‏,‏ ربما لا يكون شيئا جيدا‏.‏ ويستدل علي ذلك بالسرعة الرهيبة التي تم بها إقرار‏12‏ ألف قانون من أصل القوانين التي أقرها الاتحاد الأوروبي وتبلغ‏22‏ ألفا‏,‏ في الفترة من عام‏1998‏ حتي عام‏2005,‏ رغم أن ال‏10‏ آلاف قانون الأخري تم إقرارها علي مدي‏40‏ عاما أي في الفترة من عام‏1957‏ حتي عام‏1997.‏
ووفقا لكلاوس‏,‏ لا يوجد شيء مشترك ينزوي تحت اسم الشعب الأوروبي‏,‏ حيث توجد العديد من الأمم التي تختلف في ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها‏,‏ وهو ما يعني أن الاندماج مرة واحدة وبطريقة لا تستوعب هذه الاختلافات الجوهرية ربما يفرز مخاطر أكثر شدة علي الدول المندمجة‏.‏ وانطلاقا من هذه الرؤية‏,‏ فإنه رغم أن معاهدة لشبونة لا تشترط تأسيس إطار فوق أممي أو أكبر من الدولة‏,‏ فإن الظروف التي تمر بها أوروبا تجعل من هذه المعاهدة خطوة في هذا الاتجاه‏.‏
كان الوقت يمر سريعا‏,‏ وكان موقف الرجل من قضية الاحتباس الحراري مثيرا وغير معتاد‏,‏ فالقصة في الأول والآخر لا تزيد علي ارتفاع في درجة حرارة الأرض قدره‏0.74‏ درجة مئوية‏,‏ وهو ارتفاع عرف الإنسان كيف يتفاعل ويتكيف معه من قبل‏.‏ والمسألة من وجهة نظر صاحبنا ليست المناخ وإنما الحرية لأن أنصار نظرية الاحتباس الحراري وما يمكن أن يسببه من كوارث يسعون إلي استخدام الخوف لتقييد حرية الإنسان‏.‏ ومرة أخري يصبح البشر موضع الاستغلال والتحكم من جماعة علماء وساسة وأصحاب مصالح متنوعة يستخدمون الرعب والتهديد البيئي لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية خاصة تقيد انطلاق طاقات البشر‏.‏
وبالطبع كان لدي الكثير من الحجج المضادة التي قرأتها عند تحضيري للمقابلة‏,‏ ولكنني لم أشأ للوقت المحدد للمقابلة أن ينتهي دون السؤال التقليدي الذي نسأله لجميع السياسيين في العالم عما إذا كان لديه رأي أو نصيحة للتعامل مع صراع الشرق الأوسط‏;‏ وكانت الإجابة لا تقل إدهاشا عن جميع الإجابات الأخري‏.‏ لقد عاشت دولة التشيك لحظات صعبة كثيرة في تاريخها‏,‏ كان آخرها الفصل ما بين دولتي التشيك والسلوفاك بعد سنوات طويلة من العيش معا‏,‏ ومن ناحية الرئيس كلاوس وزوجته سلوفاكية‏-‏ فقد كان معارضا بشدة للفصل‏;‏ ولكن ساعة اختيار الشعب السلوفاكي للانفصال كان القرار الذي سعي فيه وأشرف علي تنفيذه بدقة له شقان‏:‏ الأول أن يتم الانفصال بسرعة ونعومة شديدة وبعدالة تامة لا تبقي حقدا ولا مرارة‏;‏ والآخر أن يتم ذلك دون تدخل قوي أجنبية من أي نوع‏,‏ لا الأمم المتحدة‏,‏ ولا الاتحاد الأوروبي‏,‏ ولا القوي العظمي أو الكبري‏;‏ فقط التشيك والسلوفاك يجلسون معا لحل القضية‏.‏ ذلك هو الدرس التشيكي لدول الشرق الأوسط الذي يمكن التحفظ عليه من زوايا كثيرة‏,‏ ولكن الوقت كان قد انتهي وحان أوان الصور التذكارية‏.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.