«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
لقاء مع فاتسلاف كلاوس
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 02 - 2010

لم تكن هي المرة الأولي التي أزور فيها العاصمة التشيكية براغ‏,‏ وما كانت هي المرة الأولي التي أزور فيها بلدا كانت فيه درجة الحرارة ساعة خروجي من المطار أقل سبع درجات من الصفر مئوية‏. وقبل أن يأتي المساء كانت البرودة قد أصبحت سبع عشرة درجة تحت الصفر‏.‏ ولكن الفارق كان كبيرا بين الزيارة الأولي في مطلع القرن حيث كنا في قلب الربيع من شهر مايو‏,‏ وكانت القلعة التي ذهبنا إليها‏-‏ حيث يوجد قصر الرئاسة التشيكية‏-‏ يسكن فيها شخصية أسطورية هي فاتسلاف هافل الكاتب المسرحي التشيكي الشهير‏,‏ وواحد من كبار المنشقين الذين باتوا من الأعلام خلال فترة الهيمنة السوفيتية علي وسط وشرق أوروبا‏,‏ وعندما آن الأوان وانهارت الإمبراطورية كان هو وأمثال ليش فاونسا‏-‏ زعيم حركة التضامن البولندية‏-‏ هم الذين وقع عليهم اختيار التاريخ لبناء دول جديدة من ركام تجربة كانت في طريقها إلي ملفات التاريخ‏.‏
كان هؤلاء جماعة المناضلين من أجل الحرية الذين كانت عليهم مواجهة سطوة دولة متحكمة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة بالطبع‏,‏ وفوق ذلك كله خرجت منها ثقافة متكاملة تقوم علي اعتماد الأفراد علي الحكومة من المهد إلي اللحد‏,‏ وفيها قدر قليل من القنوط وعدم الثقة والشك في قدرة الإنسان علي التغيير والانطلاق إلي آفاق رحبة كان العالم قد وصل إليها في مجتمعات أخري غربية وغير غربية‏.‏
المرة الأولي كانت في صحبة بعثة الأهرام بقيادة الأستاذ إبراهيم نافع‏,‏ وكان السؤال هو ما الذي جري في وسط وشرق أوروبا بعد عقد من سقوط حائط برلين والتحول الكبير الذي جعل دول هذه المنطقة تذهب زرافات ووحدانا إلي الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي لحاقا والتصاقا بالعالم الذي طال الحرمان منه‏;‏ أو لأنه بدا كالضامن الوحيد لدول أضناها وأخذت منها السطوة الروسية أو القبضة الألمانية؟‏.‏
هذه المرة جاءت الدعوة من الحكومة التشيكية لإجراء مجموعة من المقابلات الصحفية بالمشاركة مع شبكة الأوربت التليفزيونية تمهيدا للزيارة التي سيقوم بها الرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس إلي القاهرة للقاء مع الرئيس مبارك‏,‏ وافتتاح استثمار تشيكي مهم‏,‏ وإشهار الطبعة العربية من كتابه الكوكب الأزرق في قيود خضراء‏;‏ من الذي في خطر‏:‏ المناخ أم الحرية؟‏.‏ وعندما وقفت في البقعة ذاتها من القلعة التي وقفت فيها مع رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير الأهرام الأسبق منذ سنوات‏,‏ لم يكن الطقس فقط هو الذي تغير ما بين الربيع والشتاء‏,‏ وما كان المشهد الأخاذ لمدينة براغ بورودها الفيحاء واخضرارها الخاطف للعيون وقباب كنائسها وقصورها وعمارتها قد انقلب الآن ملتحفا بالثلوج‏;‏ فيكون البياض في الأرض وزرقة السماء وما بينهما من معمار بديع لوحة أخري من الجمال‏.‏ ولكن ما تغير حقا هذه المرة هو أن القصة نفسها قد تغيرت‏,‏ فحادثة الانقلاب من الشيوعية إلي الرأسمالية‏,‏ أو من التحالف الشرقي إلي التحالف الغربي‏,‏ لم تعد هي القصة‏,‏ وإنما باتت الحكاية هي كيف جري التحول من دولة متخلفة‏-‏ أقرب إلي العالم الثالث من العالم الأول‏-‏ إلي دولة متقدمة‏,‏ ومن دولة يعتمد شعبها في كل شيء علي الدولة إلي دولة تعتمد في كل شيء علي المبادرة الفردية‏!.‏
الاختلاف الحاد كان في شخصية فاتسلاف هافل الحالم المثالي‏,‏ والمناضل السياسي من أجل حرية الإنسان‏,‏ إلي فاتسلاف كلاوس الاقتصادي بالمهنة‏,‏ والسياسي بالممارسة‏,‏ والمفكر طوال الوقت بحيث ينتج أفكارا تختلف مع الحكم الذائعة والشائعة فتكون الشجاعة هذه المرة ليست في مواجهة الحكم وإنما في مواجهة الجماعة‏.‏ والغريب أن كليهما هافل وكلاوس رغم تباعد الشقة بينهما عملا معا‏,‏ الأول في مكانته رئيسا للجمهورية‏,‏ والثاني في مواقع متعددة وزيرا للمالية ورئيسا للوزراء ورئيسا لمجلس النواب من أجل دولة التشيك‏,‏ مرة عندما كانت جزءا من تشيكوسلوفاكيا‏,‏ ومرة بعد أن جري الانفصال المخملي أي بدون نقطة دم واحدة بين التشيك والسلوفاك‏.‏
الحقيقة أنه لم يكن قد مضي وقت طويل علي الصورة التي تجسد حالة الرئيس عندما وقع في‏3‏ نوفمبر الماضي مصدقا علي اتفاقية لشبونة للاتحاد الأوروبي التي تدعم من الحالة الاتحادية الأوروبية‏;‏ وهو الواقع الذي رفضه كلاوس بينما كانت كل المؤسسات التشيكية قد وافقت عليها وآخرها المحكمة الدستورية العليا التي حكمت بأن الاتفاقية لا تتعارض مع الدستور التشيكي‏.‏ خضع الرئيس لرغبة الشعب وسلطة المؤسسات وهو يرتدي رابطة عنق سوداء‏,‏ وبعد التوقيع صدر تصريحه الشهير ابتداء من هذه اللحظة‏,‏ فقدت بلادنا سيادتها‏.‏ مثل هذه اللحظة‏,‏ وهذه الكلمات تبدو صادمة لكثيرين منا ينظرون مثلي بإعجاب للتجربة الأوروبية في التكامل والوحدة‏;‏ بل حتي إنهم ينتقدون موقف كلاوس من المعاهدة كما فعل كثير من التشيك والأوروبيين الذين رأوه عقبة في وجه التقدم الأوروبي‏.‏ ولكن مع ذلك تبقي هذه اللحظة مثيرة للإعجاب عندما يكون علي الإنسان‏,‏ حتي رئيس الجمهورية‏,‏ أن يقول ما يعتقده صحيحا‏,‏ ولكنه بعد ذلك يخضع لموقف الجماعة ومؤسساتها‏.‏
كنت أعرف كل ذلك وأنا أسير في طرقات قصر الرئاسة التي عرفتها وشاهدت لوحاتها من قبل في طريقي إلي لقاء الرئيس‏,‏ وبينما كان لقاؤنا الأول بالمشاركة مع الأستاذ إبراهيم نافع في مكتب الرئيس الخاص‏,‏ حدث هذه المرة في حجرة خاصة أنيقة بالمشاركة مع الأستاذ جمال عنايت وطاقم تليفزيوني‏.‏ وبالطبع كان لدي الكثير من الأسئلة‏,‏ فلم تكن التجربة التشيكية معبرة عن نفسها فقط‏,‏ وإنما عن عملية تحول ضخمة وهائلة حدثت في وسط وشرق أوروبا‏,‏ تقف وحدها في موضع المقارنة مع عمليات تحول أخري حدثت في العالم كله حيث حدث التغير السياسي الكبير أولا ثم أعقبه التحول الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بسرعة هائلة‏,‏ وكان ذلك علي عكس ما حدث في آسيا عندما كانت البداية بالتحول الاقتصادي‏,‏ ومن بعده بدأت التغيرات السياسية التي وصلت إلي المشارف الديمقراطية في بلاد‏,‏ وبقيت الديمقراطية بعيدة في حالات أخري‏.‏
تفاصيل اللقاء‏,‏ وما جري فيه من أسئلة وأجوبة لا تسمح المساحة بنشرها جميعا‏,‏ ولكن التساؤل عن التحول كانت إجابته ملخصة في عبارة واحدة وهي أن دولة التشيك صارت دولة أوروبية عادية بمعني أنها يجري عليها ما يجري علي دول أخري من قوانين الطبيعة والسوق والدورات المزاجية المختلفة‏.‏ في هذه الحالة العادية‏-‏ أي تلك التي لا يوجد فيها أوضاع استثنائية أو حالات تميز أو تمييز خاصة فأهم ما يميز الدول هو القدرة علي التنبؤ‏,‏ ورسم المسارات‏,‏ والتحولات الكبري والصغري‏.‏
المدهش أن الرئيس التشيكي لم يقل كلمة واحدة عن ارتفاع دخل المواطن التشيكي حتي بات‏25‏ ألف دولار في العام‏,‏ ولم يأت علي لسانه حديث عن طرق أو مدارس أو جامعات أو مشروعات ضخمة‏,‏ كانت المسألة واضحة في ذهنه تماما‏,‏ وهو المهندس الحقيقي لعمليات التحول الكبري في بلاده‏,‏ وهي أن تصبح دولة التشيك دولة أوروبية عادية‏.‏ كان الرجل ببساطة يريد لبلاده أن تكون قطعة من أوروبا‏,‏ كما كان حلم الخديو إسماعيل باشا لمصر في ستينيات القرن التاسع عشر‏,‏ وبالطبع كان كلاوس يعرف أن جمهورية التشيك هي جزء جغرافي من أوروبا‏,‏ ولكن القضية لم تكن الجغرافيا‏,‏ ولا حتي التاريخ‏,‏ وإنما كانت المعني والقيمة والنظام والمؤسسات والفكر‏.‏
لم يكن توضيح الحالة العادية لجمهورية التشيك يغني عن السؤال كيف؟ وفي السؤال تجمعت أسئلة كثيرة مستمدة كلها من الأدب السياسي المصري الشائع حول نقطة البداية وهل هي السياسة أم الاقتصاد‏,‏ وفي السياسة كيف يكون بناء المؤسسات وتوازناتها‏,‏ وفي الاقتصاد متي تكون الخصخصة‏,‏ وهل الرأسمالية ضرورة لقيام المؤسسات التي تنظمها أم أن المؤسسات لا بد منها أولا حتي تحمي الرأسمالية من نفسها؟‏.‏
لمحت علي وجه الرجل ابتسامة‏,‏ وكأنه وجد أمامه أسئلة يعرفها كلها‏,‏ بل قال ذلك صراحة ولكن بعد أن نسبها للمثقفين والإعلاميين‏;‏ وجاءت الإجابة بسيطة وهي أن عملية الإصلاح لا بد أن تبدأ في كل الجبهات في كل الوقت‏,‏ ولا يوجد إصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي‏,‏ ولا يوجد اقتصاد سوق دون مؤسسات‏,‏ ولا توجد المؤسسات حقا دون اقتصاد سوق تتعامل معه‏.‏ ولما سألت عن آلام تلك‏,‏ وأوضاع الاضطراب التي قد تخلقها‏,‏ لم ينفها‏,‏ ولكنه قال إن الناس تعرف كل شيء‏,‏ وسوف تكون لديهم القدرة علي فهم العقبات‏.‏ المسألة هنا‏,‏ كما قال‏,‏ هي أن هذه المجالات تتفاعل مع بعضها البعض‏,‏ وهي تقوم بدور مضاعف الدفع والتعبير من عندي كما فهمت عبارات الرجل يحقق التقدم خلال فترة معقولة من الزمن‏.‏ وكان ذلك في الحقيقة هو ما حصل عليه جيل واحد من التشيك حينما خرجت دولتهم من العباءة الشمولية الاستثنائية للشيوعية إلي الفضاء الأوروبي الرحب حيث يعيش الناس في حياة يعرفون أولها وآخرها‏,‏ نظمها وقواعدها‏,‏ وباختصار مواطنة تجعل الحياة عادية‏.‏
وبالطبع كان موضوع أوروبا ملحا بشدة منذ البداية لأن كلاوس كان معرضا لانتقادات حادة‏,‏ وكان مدهشا أنه في الوقت الذي حدث فيه هجوم كثيف علي أفكاره الاقتصادية والبيئية‏,‏ فإن الشعب التشيكي انتخبه مرة ثانية وأخيرة في عام‏2008,‏ حتي وهو يؤيد أمورا كثيرة لا يقبلها الرئيس‏.‏ وعندما سألته عن موقفه من التوقيع علي اتفاقية لشبونة‏,‏ بل موقفه من الاتحاد الأوروبي كله‏..‏ بدا لي الرجل يعاني من مأزق فكري وضميري حاد يعود في جوهره إلي حالة دولة التشيك ذاتها التي لا يزيد عدد سكانها كثيرا علي‏10‏ ملايين نسمة‏,‏ وتقاذفتها القوي الأوروبية الكبري طوال التاريخ غزوا أو خداعا‏,‏ وها هي قد خرجت لتوها من عباءة دولة عظمي حررتها من الاحتلال الألماني ثم استعبدتها لعقود تالية ثمنا لهذا التحرير‏.‏ وعندما جاء وقت ربيع براغ عام‏1968‏ كانت الدبابات السوفيتية هي التي جاءت بالغزو الثاني للدولة‏,‏ حتي تم التحرير في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين‏.‏ فهل بعد ذلك كله تتقدم الدولة التشيكية طوعا وتضع نفسها تحت عباءة دولة مسيطرة أوروبية واسعة القدرة وهائلة القوة أيضا‏.‏
لم يكن ذلك هو ما قاله الرئيس بصريح العبارة‏,‏ ولكنه كان واقعا بوضوح تحت كلماته التي بدا فيها مستسلما لحقيقة اللحاق بأوروبا ربما لضرورات استراتيجية وتاريخية واقتصادية‏,‏ ولكنه كان متشككا في الخطوات والسرعة التي تجري بها عملية التوحيد الأوروبية‏.‏ بعبارة أخري يري كلاوس أن معاهدة لشبونة سوف تؤدي في المقام الأول إلي تكريس وتقوية مركزية القيادة في مقر الاتحاد الأوروبي ببروكسل لصالح بعض المؤسسات التي تحاول تقليص صلاحيات الحكومات لتحقيق بعض أهدافها‏,‏ وسوف تمكنها الاتفاقية من اتخاذ قرارات سيادية تستطيع فرضها علي الدول التي ستكون عاجزة في هذه الحالة عن رفضها أو عدم الالتزام بها‏.‏ فضلا عن ذلك‏,‏ فإن عامل الوقت يبدو مهما جدا لتقييم التجربة وتداعياتها المحتملة‏,‏ فوصول تجربة التكامل الأوروبي إلي نهايتها وغاياتها في وقت مبكر جدا‏,‏ ربما لا يكون شيئا جيدا‏.‏ ويستدل علي ذلك بالسرعة الرهيبة التي تم بها إقرار‏12‏ ألف قانون من أصل القوانين التي أقرها الاتحاد الأوروبي وتبلغ‏22‏ ألفا‏,‏ في الفترة من عام‏1998‏ حتي عام‏2005,‏ رغم أن ال‏10‏ آلاف قانون الأخري تم إقرارها علي مدي‏40‏ عاما أي في الفترة من عام‏1957‏ حتي عام‏1997.‏
ووفقا لكلاوس‏,‏ لا يوجد شيء مشترك ينزوي تحت اسم الشعب الأوروبي‏,‏ حيث توجد العديد من الأمم التي تختلف في ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها‏,‏ وهو ما يعني أن الاندماج مرة واحدة وبطريقة لا تستوعب هذه الاختلافات الجوهرية ربما يفرز مخاطر أكثر شدة علي الدول المندمجة‏.‏ وانطلاقا من هذه الرؤية‏,‏ فإنه رغم أن معاهدة لشبونة لا تشترط تأسيس إطار فوق أممي أو أكبر من الدولة‏,‏ فإن الظروف التي تمر بها أوروبا تجعل من هذه المعاهدة خطوة في هذا الاتجاه‏.‏
كان الوقت يمر سريعا‏,‏ وكان موقف الرجل من قضية الاحتباس الحراري مثيرا وغير معتاد‏,‏ فالقصة في الأول والآخر لا تزيد علي ارتفاع في درجة حرارة الأرض قدره‏0.74‏ درجة مئوية‏,‏ وهو ارتفاع عرف الإنسان كيف يتفاعل ويتكيف معه من قبل‏.‏ والمسألة من وجهة نظر صاحبنا ليست المناخ وإنما الحرية لأن أنصار نظرية الاحتباس الحراري وما يمكن أن يسببه من كوارث يسعون إلي استخدام الخوف لتقييد حرية الإنسان‏.‏ ومرة أخري يصبح البشر موضع الاستغلال والتحكم من جماعة علماء وساسة وأصحاب مصالح متنوعة يستخدمون الرعب والتهديد البيئي لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية خاصة تقيد انطلاق طاقات البشر‏.‏
وبالطبع كان لدي الكثير من الحجج المضادة التي قرأتها عند تحضيري للمقابلة‏,‏ ولكنني لم أشأ للوقت المحدد للمقابلة أن ينتهي دون السؤال التقليدي الذي نسأله لجميع السياسيين في العالم عما إذا كان لديه رأي أو نصيحة للتعامل مع صراع الشرق الأوسط‏;‏ وكانت الإجابة لا تقل إدهاشا عن جميع الإجابات الأخري‏.‏ لقد عاشت دولة التشيك لحظات صعبة كثيرة في تاريخها‏,‏ كان آخرها الفصل ما بين دولتي التشيك والسلوفاك بعد سنوات طويلة من العيش معا‏,‏ ومن ناحية الرئيس كلاوس وزوجته سلوفاكية‏-‏ فقد كان معارضا بشدة للفصل‏;‏ ولكن ساعة اختيار الشعب السلوفاكي للانفصال كان القرار الذي سعي فيه وأشرف علي تنفيذه بدقة له شقان‏:‏ الأول أن يتم الانفصال بسرعة ونعومة شديدة وبعدالة تامة لا تبقي حقدا ولا مرارة‏;‏ والآخر أن يتم ذلك دون تدخل قوي أجنبية من أي نوع‏,‏ لا الأمم المتحدة‏,‏ ولا الاتحاد الأوروبي‏,‏ ولا القوي العظمي أو الكبري‏;‏ فقط التشيك والسلوفاك يجلسون معا لحل القضية‏.‏ ذلك هو الدرس التشيكي لدول الشرق الأوسط الذي يمكن التحفظ عليه من زوايا كثيرة‏,‏ ولكن الوقت كان قد انتهي وحان أوان الصور التذكارية‏.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.