جاء حادث كنيسة القديسين المروع ليحدث انفجارا في الأفكار والمشاعر لايقل بحال من الأحوال عن انفجار الحدث ذاته, وبين الحزن الغاضب والحزن النبيل كان لزاما علي الصفوة أن تستشرف القادم بقدر ما تستشعر من ألم. وأحسب أننا بقدر تمسكنا بتعبير الوحدة الوطنية. مضمونا وتاريخا بقدر ما يستوجب منا الأمر وقفة حيال مصطلح الفتنة الطائفية الذي ظللنا نتعاطاه ردحا من الزمن ومصر منه براء. والواقع فإن القراءة المتعقلة للمشهد برمته تستوجب منا بداية التأكيد علي الطبيعة الوجدانية للشعب المصري الذي رغم تباين مقدساته في بواكير تاريخه فإنه ظل مستمسكا بالإنتماء الإلهي كأساس للثوابت الوجدانية والعقيدية التي درج عليها. ومن ثم فلم تكن هناك غضاضة لاتباع أي معبور في تقبل أشياع بل وعبادة المعبود الآخر أحيانا. واضعين بذلك البذرة الأولي لمفهوم قبول الآخر بالمعني الحديث والتي أصبحت ضمن النسيج الوجداني للمصري عبر العصور, بل لا أغالي إذا قلت إنها أصبحت مفردا غير مرئي في تكوينه الجيني. ومن ثم لم يكن مستغربا أن تجد الديانات الثلاث لها متسع للتعايش تحت مظلة الإيمان بغض النظر عن آليات ممارسة الاعتقاد في شكلها الطقسي. ولعل ترحيب أقباط مصر بالفتح الإسلامي بعد محنة الإضطهاد الروماني الذي لاتزال آثاره شاخصة في بقاع مصر, لأبلغ دليل علي ما تم سوقه. والواقع أن هذه المقدمة كان لابد منها قبل الولوج في لب القضية التي أراد بعض المحللين ربطها بالحادث ذاته, وإن كان الإنصاف يقتضي القول إن الحادث وإن استهدف الوطن فإنه أراد اللعب علي الوتر المقيت لما يسمي بالفتنة الطائفية. ومن ثم كان لزاما علينا التأكيد علي كونها فتنة وطنية وليست طائفية لسبب بسيط أن مصر تاريخيا لم تتداول مسمي الطائفية إلا في المهن والصنائع. بل حتي التقسيم الديني للمسلمين يميز بين أهل السنة وأهل الشيعة, وذات الأمر لدي المسيحيين التي تسبق كلمة الأقباط عند تمييز الأرثوذكس عن الكاثوليك عن البروتوستانت. بيد أن الأمر لم يخل من اللعب سياسيا بورقة الدين في العهد الساداتي عندما بدأ ضرب الوجود الشيوعي بالطرح الإسلامي الذي بات في أحايين كثيرة مستثمرا للموقف بشكل أقل نضجا من المتوقع لاسيما بين شباب الجامعات, وكلنا يعلم أن هذا التنامي كان أحيانا في الجسد دون الرأس حتي انقلب السحر علي الساحر في مشهد الاغتيال الذي كان صادما للجميع بحكم عدم تقبل المزاج المصري للوسيلة عبر تاريخه الطويل. ومما لاشك فيه أن ثمة توازيا كان بصدد الرصد والتنامي بدوره وأعني به موقف أقباط مصر الذين وجدوا أن من حقهم المطالبة بالعديد من الحقوق التي يكفلها لهم حق المواطنة والتي ربما قد تضيع في غمرة المد الإسلامي آنذاك. وبغض النظر عن تباين الأفعال وردود الأفعال رسميا ومدنيا فقد كانت كرة الثلج بسبيلها للتضخم رويدا رويدا, في ظل عدد من المعطيات أحسبنا جميعا كمصريين مسؤلين عنها بمن فينا أولئك الذين صاغوا الفتنة الطائفية ضمن صياغات كثيرة شهدها مجتمع العلم والإيمان آنذاك بدءا من السلام الاجتماعي وحتي القطط السمان. ولعل التذكير بتلك المعطيات كمقدمات لحالة المواجهة المفتعلة يجعلنا نستبصر وقع أقدامنا أملا في مستقبل أكثر عدالة وأعمق محبة وأنضج مواطنة. فمن ذلك مثلا استدعاء تعبيرات فقهية تجاوزها الزمن لبث الحياة فيها رغم وفاة بعضها بالسكتة الوطنية مثل أهل الذمة ودار الحرب والسلام, بل وتجاوز الأمر حدا ممجوجا باستدعاء ألفاظ من التراث الشعبي المرتبط بالتدين كان كفيلا بإيذاء المشاعر بذكريات مدسوسة وإن ظلت متواترة. وفي المقابل لايزال يلح علي الأذهان ذلك الموقف الخاص من كتاب الشيخ الغزالي رحمه الله قذائف الحق وما احتواه أحد فصوله مما ظنه البعض مؤامرة علي المسلمين أكثر من كونه تحديدا لمصالح مرجوة وأهداف مرحلية. كما لم تكن دور العبادة بعيدة عن المشهد عندما شاب فكرة مجموعات التقوية الدراسية بالكنائس ومن بعدها المساجد سوء النية ظنا من كل طرف أنه يحاول استقطاب ناشئة الطرف الآخر. وقد أدي التمادي في مثل هذه التصرفات إلي مزيد من المواجهات التي طغت علي نبل الفكرة, بل وزجت برجال الدين في أتون الخلاف الذي بدأ اجتماعيا ليتحول دون أن يدروا إلي معترك سياسي وصل في بعض الأحايين إلي الاستقواء بالخارج. وفي ظل هذا الزخم لم يكن وحش الإرهاب الرابض في خلفية المشهد ليترك الفرصة التي قدمناها له طواعية وليزيد الطين بله منعطفا بأسلوب التفجير ظنا منه أنها القشة التي قد تقصم ظهورنا قبل عيرنا وبعيرنا. ولم يدرك أنه قد قدم درسا استوعبه المجتمع سريعا دلالة علي عافيته الفطرية, ورغم الحزن الدفين الذي نال منا جميعا فإن الاستفاقة كانت أسرع مما يتوقع. لتذهب أدراج الرياح مزاعم الاستقواء الخارجي أو فرض الوصاية الدولية علي مسيحيي الشرق أو تدويل الملف الطائفي غير الموجود أصلا. وإن كانت الموضوعية تقتضي ضرورة النظر في جميع خطوط التماس بين عنصري المجتمع بروح مصرية صميمة قوامها حق المواطنة للجميع في ضوء كفالة الدستور والتشريع وبتفعيل ثقافة التعبئة الإيجابية لمؤسسات الدولة المدنية دون تهوين أو تهويل. المزيد من مقالات د. حسن السعدي