2ربما يكون جائزا في قراءتنا للمشهد العربي الراهن والذي يمثل استفتاء تقرير المصير لجنوب السودان هذه الأيام أحد أهم ملامحه أن نتحدث عن خلل وتفكك في صيغة الرؤية الاستراتيجية العربية. وربما نتحدث عن متغيرات دولية عميقة ومتسارعة خصوصا تلك التي أفرزتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام2001 وأدت إلي انتقاص ملحوظ في أوراق القوة العربية علي مختلف الأصعدة! كل ذلك جائز ومفهوم, ولكن الذي يصعب فهمه أو القبول به أن تتحول تلك الأحداث الطارئة إلي مسلمات أبدية تصل بالبعض منا إلي حد التصور بأن التاريخ يمكن له أن يتراجع أمام الأساطير, وأن جغرافيا الشرق الأوسط يمكن أن تصبح شيئا من الماضي بسياسات التحريض المدعومة بقوة المال والنار والحديد. إن الخطر كل الخطر أن تؤدي نتيجة استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان إلي تنامي دعوات الاستسلام لواقع العجز العربي, لأن أخطر ما في هذه الدعاوي أنها تستبعد فرضية اعتبار ما يجري أنه مجرد تقصير يمكن تلافيه وإهمال يمكن تصحيحه وإنما علي العكس يجري الترويج لروايات اليأس والإحباط بهدف تعميق الشعور بأن شعوب هذه الأمة ليست قادرة علي الوحدة والتكامل حتي في داخل كل وطن علي حدة. لقد وصلت الأمور إلي ما وصلت إليه اليوم كثمن للسلام في السودان بعد سنوات من الحرب الأهلية, ولكن الأمم الحية بإمكانها أن تتحمل فقدان قطعة من الأرض أو التخلي مرحليا عن حق مشروع لها علي أساس أن هذه أمور يمكن تعويضها واستردادها ولكن الذي فوق الطاقة وفوق الاحتمال أن تتخلي أي أمة عن فلسفة وجودها... وفلسفة الوجود العربي في وحدة هذه الأمة وتكاملها وقدرتها علي النهوض كلما تعثرت قدماها وحطت عليها الصدمات والانتكاسات! ومن هنا فإن من قصر النظر أن يري البعض في انفصال محتمل لجنوب السودان عن شماله فرصة للدعوة لما هو أكثر من مراجعة السياسات والانزلاق إلي خطيئة الدعوة لاستبدال العقائد والاستراتيجيات بدعوي أن هناك متغيرات دولية يصعب الوقوف أمام أمواجها الهادرة, وبالتجاهل المتعمد لحقيقة راسخة علي طول التاريخ بأن المواقف الدولية ليست مضمونة في موازينها, لأنها موازين متحركة باستمرار وقابلة للانتقال من كفة إلي أخري. أقول بوضوح: إن المسألة السودانية قبل أي شيء وبعد أي شيء أكبر وأعمق من أن ينظر إليها بمنظور متغيرات طارئة- لا يمكن التقليل من أهميتها- وإنما نحن نتحدث عن مسائل وأمور تغوص في المستقبل العربي إلي أبعد وأعمق من متطلبات اللحظة الراهنة فمثل هذه المسائل قد لا تكون ملموسة وبادية للعيان حالي, ولكنها هي جوهر القوة الكامنة في باطن هذه الأمة علي طول التاريخ, ومن الظلم أن يتعامل معها البعض بمثل ما يتعامل مع مخزون النفط الكامن في باطن أرض هذه الأمة. إن النفط سلعة تباع وتشتري وقابلة للانتهاء والزوال ولكن ثوابت هذه الأمة ينبغي التعامل معها كأمور جد مختلفة تماما! *** خير الكلام: ** لا تخش من التقدم ببطء ولكن احذر من أن تظلمحلك سر! [email protected] المزيد من أعمدة مرسى عطا الله