قصتان يطيب لي الاشارة إليهما في عرض الحديث عن تنوع الثقافات. الأولي تروي أنه عندما قام إمبراطور إيران بزيارة قيصر روسيا دعاه الأخير إلي مقصورته الفاخرة في الأوبرا لمشاهدة واحدة من اشهر فرق الأوبرا في أوروبا. وبعد العرض سأل المضيف ضيفه هل أعجبك العرض؟ فرد عليه نعم خصوصا تلك الفقرة التي سبقت ظهور الرجل الذي يلوح بعصاه اي المايسترو وكان يقصد بذلك فترة ضبط الآلات والاوتار ومايصدر عنها من دندنة معينة أطربت الامبراطور لأنها أقرب إلي ما تعود عليه من موسيقي. ويعلق كاتب القصة فيقول إن القيصر كان سيصبح في الموقف نفسه لو ذهب لزيارة الامبراطور في إيران وعزفت له الليالي والتقاسيم والمواويل البعيدة تماما عن ثقافته, فما يعتبر مقبولا ومرغوبا في مجتمع ما, لايشترط ان يكون له نفس القبول في مجتمعات اخري, هذا القول لاينطبق علي الايقاع الموسيقي فقط, بل علي إيقاع الحياة برمتها. ومسألة التنوع بين الاذواق واحدة فقط من جوانب تباين الثقافات وتعايشها, إنها أسهلها وابسطها, فالثقافة لاتحدد فقط ما هو مستساغ فنيا, لكنها أيضا تحدد ماهو مقبول اخلاقيا وسلوكيا واقتصاديا واجتماعيا فتختلف الأذواق والمعتقدات والمواقف والقيم والافعال. والاخري قصة الأمريكي الذي عاد بعد الحرب إلي قرية آسيوية وبني بها مدرسة جميلة ليعلمهم فيها الديمقراطية وحقوق الانسان, ظل أهل القرية يحومون حول المدرسة دون أن يدخلوها اذ كانوا يتجهون جميعا بعد العمل إلي بيت الشاي غضب الأمريكي منهم لانهم يفضلون احتساء الشاي علي المعرفة, إلي أن أدرك ان بيت الشاي بالنسبة لهم ليس مجرد مقهي, لكنه في ثقافتهم منتدي فكري وادبي واجتماعي وسياسي وانه أكثر فاعلية من المدرسة التقليدية فانضم إليهم وجعل بيت الشاي منبر رسالته اي مدرسته بأفكاره واتيحت له الفرصة التي أرادها بطرح افكاره في مناخ يسهل قبولها. وقضية قبول التنوع الثقافي, هي قضية الاتزان بين الكونية والتعددية, إنها قضية الابقاء علي التنوع الثقافي الخلاق الذي يثري البشرية مثلما تزداد الطبيعة ثراء بالتنوع البيئي, ويعد تراثا للاجيال الحالية والقادمة والوصول في الوقت نفسه إلي أخلاقيات عالمية جديدة وميثاق اخلاقي دولي يتفق معها كلها تزدهر فيه هذه الثقافات جميعا دون ان تحاول واحدة منها السيطرة علي غيرها, وفي ذلك يقول غاندي: لا أريد أن تلتف الجدران حول منزلي ولا أن يحكم اغلاق نوافذي, اريد أن تهب كل ثقافات الارض حول بيتي, وتحوم بأقصي قدر ممكن من الحرية ولكني أرفض أن تنزعني اي واحدة منها من جذوري. والثقافة الدخيلة خاوية لاجذور لها, لاتسد فراغا ولا تشبع حاجة, ذلك أن الثقافة هي نفسها نتيجة عوامل متعددة متداخلة تفاعلت عبر أزمنة متعاقبة فانتجت مجمل الاتجاهات والقيم والمواقف التي تسود مجتمعا ما وهي لاتتغير إلا إذا تغيرت هذه العوامل وتنمية المناخ الثقافي يكون بتنقية هذه العوامل من السلبي فيها وتدعيم ما بها من ايجابيات عن طريق استثمار السلوك الثقافي الذي يتقبله مجتمع بذاته. ذلك التأثير الكبير للثقافة في الحياة كان دائما, حقيقة ثابتة ظهرت واستقرت مع ظهور الانسان وتجمعاته غير أن الانسان لم يدركها بأبعادها إلا في العصر الحديث كانت القبائل الأولي تتمسك بأساليب معينة في الفكر والسلوك والشعائر والطقوس وتعيش في إطارها وتتصور أنها عالمية تسود البشر جمعاء. نعم كانوا احيانا يتلاقون, واحيانا اخري يتصارعون ويدركون أن هناك اسلوبا آخر في الحياة والوانا أخري من العلاقات, لكنهم كانوا يعتقدون ان هؤلاء المختلفين علي خطأ وهو وحدهم علي صواب. واستمرت محاولات اخضاع الانسان للآخر باساليب متباينة تقوم علي رغبة الانسان في ان يكون الآخر مثله, أو يتسلط عليه, ومع ذلك ظلت هذه القوة الهائلة, للثقافة واقعا مجهولا وحقيقة مستقرة يعيشها الانسان دون ادراك لماهمتها ومداها.. إلي ان مرت البشرية بتطورات هائلة مادية وفكرية وعلمية واجتماعية, وثقافية, بدأ معها التفكير في ابعاد الحياة, ودوافع وسلوك الانسان وعوامل تشكيل المجتمعات, ثم جاءت بعد ذلك النظريات السياسية والانسانية لتلقي الضوء علي قدرات الفرد وامكاناته, وعلي تكوين المجتمعات واشكالها, وعلي أهمية التنمية والتقديم والتطور والتأثير المتبادل بينها جميعا. كان طبيعيا مع كل ذلك أن تفرض الثقافة أو الثقافات نفسها كعامل اساسي يؤثر في السلوك وفي التنمية ويتأثر بها بنفس القدر. أصبح ثابتا أن سلوك الانسان في أبسط الامور وأكثرها تعقيدا توجهه ثقافة معينة فيختلف من مكان لآخر, ادركنا ان احترام الوقت ثقافة, قبول الآخر ثقافة, ومكانة المرأة تحددها ثقافة معينة, والمشاركة والمسئولية ثقافة كما أن تفعيل المواطنة ثقافة فدعونا إليها وإلي غيرها. إذا كانت الثقافة علي ذلك القدر من الأهمية والتأثير علي الفكر والسلوك فانه لابد أن تأخذ الثقافة مكانتها في المجتمع, لقد آن الأوان للاعتراف بالثقافة كوسيلة للتغيير وآلية للتنمية وركيزة للسلام. اننا إذ ندعو إلي اهمية استثمار الثقافة في تصحيح السلوك فإننا ندعو ايضا إلي دعم ونشر ثقافة الثقافة أي نشر الثقافة التي تعطي الثقافة حقها وتضعها في إطارها الصحيح وندرك تأثيرها العميق. إن الدعوة لثقافة الثقافة تستحق أن تأخذ مكانها بين المفكرين والكتاب وبين المخططين والمنفذين. إن الايمان بها هو أساس كل ماندعو إليه من ثقافات متعددة نتحدث عنها ونطالب بها خاصة وقد أصبحنا في مسيس الحاجة إلي ثقافة المواطنة لتصد عنا كوارث متوقعة وغير متوقعة. والحديث مستمر. المزيد من مقالات د. ليلي تكلا