كانت النقابات الانجليزية ناتجا لعلاقات المصنع الانجليزي. لذلك كانت حركة الأجراء الانجليز في مواجهة الرأسمالية الانجليزية.. وهكذا كانت الأمور في فرنسا وفي ألمانيا وفي كل هذه الدول الصناعية الكبيرة. أما في بلدان المستعمرات, ومنها مصر فقد كانت النشأة مختلفة تماما. لأن النشأة هنا في بلداننا, كانت في غالبيتها العظمي في وحدة العمل الأجنبية. فكان الأجراء المصريون في مواجهة صاحب العمل الانجليزي أو الفرنسي أو البلجيكي.. أو.. أو حسب جنسية الاستثمار. لذا نقول دائما إن مسيرة نقاباتنا كانت مسيرة مختلفة. لأن الأجراء هنا في بلادنا وأمثالها من بلدان المستعمرات القديمة كانوا لا يواجهون رأسماليا مستغلا فحسب وإنما وبالإضافة كان أجنبيا. فامتزج النضال العمالي بالنضال الوطني وبات المطلب النقابي مرافقا للمطلب الوطني. وأصبح النضال من أجل الاعتراف النقابي مرادفا للنضال من أجل الاعتراف بالاستقلال الوطني. ولذلك نجد أن الأدبيات السياسية التي تسجل تاريخ حركات التحرر الوطني التي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الأولي وتأججت بعد الحرب العالمية الثانية تذكر بكل وضوح وبالتفاصيل الدور الوطني الهائل الذي لعبته النقابات العمالية لإنجاح حركة التحرر في الهند وفي غانا وفي اندونيسيا وحتي في آخر بلدان إفريقيا المحقق لتحرير شعبه.. في جنوب إفريقيا. وبالعودة إلي كل الكتابات التي قدمها المؤرخون المصريون مثل د. رؤوف عباس وأ. أمين عز الدين وغيرهما فإن الإرهاصات الأولي للحركة الجماعية للأجراء المصريين كانت في مشروع خزان أسوان في نهاية القرن التاسع عشر. يؤكدون جميعا أن في عام1899 قاد العمال المصريون العاملون في خزان أسوان أول إضراب عمالي( ونؤكد هنا علي كلمة' قاد'). فسجلوا الإرهاصات الأولي للحركة الجماعية للعمال المصريين. في ذلك العام لم تكن مصر قد عرفت النقابات بعد. ولكنها كانت تعرف الإضراب. كانت مصر تعرف الإضرابات التي ينظمها العمال الأجانب, من إيطاليين ويونانيين ومالطيين. وكان أشهر هذه الإضرابات قد وقع عام1889 في خزان أسوان أيضا أي عشر سنوات قبل إضراب.1899 قاد هذا الإضراب الأول العمال الأجانب وشارك فيه المصريون. أما إضراب خزان أسوان عام1899 وهو الثاني في منطقة الخزان فقد كان بقيادة العمال الأجراء المصريين. كانوا قادته ومنظموه وجماهيره. وتكمن هنا أهميته التاريخية. ولا شك أن حركة الإضراب الأخيرة هذه كانت غريبة حينذاك علي المجتمع المصري الذي كان مغمورا غارقا في إطار من علاقات وقيم تقليدية زراعية شبه إقطاعية يحكمها كبار ملاك الأرض الزراعية الذين كانوا يتعاملون مع الفلاح المتمرد بالسوط. أي بالجلد. لذلك بالعودة إلي الصحف المصرية في ذلك الزمان للتعرف علي صدي هذا الإضراب سنقرأ أراء ربما تبدو غريبة علينا الآن. أراء تقول أن العمال المصريين' متدينون وطنيون وطيبون' لا يمكن أن يقبلوا تقليد هذه' البدعة' التي نقلها العمال الأجانب الغربيون إلي مجتمعنا المصري' المتدين المحافظ'. كما كانت هذه الصحف تدين فكرة' النقابة' وتصفها بأنها اختراع غربي شكله العمال الغربيون ليفسدوا المجتمع ويحدثوا فيه' التفسخ' والانقسام الاجتماعي. أراء من هذا القبيل التي نعتبرها الآن في زمامنا أفكارا ساذجة. ولكنها كانت تعبر عن حالة من تغيير يحدث ضمن تغيير عام في هذا المجتمع الزراعي الذي تعود علي علاقات السخرة الجبرية في حفر القناة أو شق الترع والمصارف ثم التأديب بالسوط. ثم وجد نفسه يواجه علاقات عمل جديدة تعبر عن نفسها وعن سخطها بأسلوب غير زراعي أو تقليدي وإنما بأسلوب جماعي سلمي حديث يسعي لتحقيق الحقوق العمالية المهضومة. ولكن ما كاد القرن العشرون يطل علي مصر حتي زادت الاستثمارات الأجنبية فيها وبدأت تشهد البلاد تزايدا في مساحة انتشار علاقات العمل الجديدة التي لم تعد قريبة من علاقات السخرة الجبرية القديمة وإنما باتت أقرب إلي عقود العمل في وحدات الغزل والدخان وصناعة لف السجائر ومحالج القطن والزيوت والصابون والترام وغاز الاستصباح والمياه ووحدات الخدمات الصغيرة. كل وحدات العمل الجديدة هذه كانت توظف العاملين فيها مقابل الأجر الثابت. كانت توظف العمال مقابل أجر يومي والموظفين مقابل الراتب الشهري. ومع زيادة عدد الاستثمارات, أصبح عدد الأجراء المصريين في تزايد لذلك كانت حركتهم الجماعية تتزايد هي الأخري, ولكن في حركتين وتجاه تنظيمين مستقلين ومتوازيين, للعمال تحركاتهم ومطالبهم وللموظفين ذات الشيء حركتهم ومطالبهم المختلفة. وكان لهذا الانفصال أسبابه. فللعمال ظروف وشروط عملهم وللموظفين ظروف وشروط عملهم, خاصة أن المواقع الإدارية العليا في الوحدات, من مدراء ورؤساء ورديات عمل أو ما كانوا يسمون بالأسطوات كانت مقصورة علي الأجانب. لذا يمكن فهم تلك الحركة المميزة الخاصة التي صاغها العمال المصريون إبان أحداث ثورة.1919 فهم أي العمال المصريون ومعهم الفلاحون في الريف ركزوا وخلطوا ومزجوا بين المطلب الوطني العام أي الاستقلال وبين المطالب الاجتماعية التي كانوا يسعون إليها. فالعامل المصري شهد الاستعمار ليس فقط في جيش الاحتلال والمندوب السامي, وإنما كان يراه يوميا في إدارة أجنبية تفرض عليه أجرا صغيرا وساعات عمل طويلة كما كان يراه في شخص مشرف عمل أجنبي يفرض عليه خصومات وجزاءات كان يراها المصريون مبالغا فيها. في هذا الزمان المبكر لم يحاول الأجراء من العمال ضم الأجراء من الموظفين المصريين في الوحدات إلي حركتهم, كما أن هؤلاء الآخرين, الأجراء من الموظفين المصريين, لم يحاولوا الانضمام إلي إخوانهم من الأجراء العمال في الوحدات. بل الأكثر من ذلك ظلت الحرف المختلفة في كل وحدة تملك حركتها المستقلة ثم بعد ذلك( بعد صدور قانون الاعتراف بالنقابات عام1942) تنظيمها المستقل. وجدت في مرفق الترام نقابة لسائقي الترام ثم نقابة لكمسارية الترام ثم نقابة ثالثة لمفتشي الترام. وجدت كل هذه النقابات في الوحدة الواحدة بجانب نقابة أخري هامة وقوية وهي نقابة موظفي مرفق الترام. واستمر هذا الانقسام لعدة عقود زمنية إلي أن صدر القانون91 لعام1959 الذي وحد من حركة وتنظيم كل العاملين من عمال وإداريين في كل وحدة صناعية أو تجارية أو خدمية. وربما كان هذا الانقسام القديم قد دعم من انقسام أكبر أثر سلبا علي الحياة النقابية المصرية. المزيد من مقالات أمينة شفيق