ربما كانت تلك الخطوة التي اتخذتها جمهورية البرازيل, وبعدها اتخذتها الارجنتين ثم الثالثة المماثلة التي أعلنت جمهورية أوروجواي عن نية اتخاذها مع العام الجديد, وهي الخطوة التي يتم الاعتراف فيها بدولة فلسطين كدولة حرة مستقلة ضمن حدود5 يونيو1967 الخطوات المفاجئة لنا جميعا. خطوة لم يكن حدوثها علي بالنا في هذا الوقت تحديدا, ولا من هذه البلدان بالتحديد. في الوقت الذي يتراجع فيها دور الولاياتالمتحدةالأمريكية في القضية الفلسطينية لعدم قدرتها علي ترويض إسرائيل وحتي لمجرد مد فترة وقف عملية البناء في المستوطنات لمدة ثلاثة شهر, وفي الوقت الذي يزداد فيه إحساس المواطنين العرب أن القضية الفلسطينية تتراجع علي أجندة العمل العربي الجماعي, وسط كل ذلك, تأتي هذه الإشارات المضيئة من بلدان أمريكا اللاتينية لتؤكد أن ذاكرة الإنسانية لا يمكن أن تسقط حقوق الشعوب المقهورة مهما تباعدت المسافات, ومهما تباينت الثقافات ومهما مر الزمان. عادت بنا, وبذاكرتنا, هذه الخطوة المضيئة إلي أيام الحلم التحرري القديم الذي تجمعت فيه مجموعة بلدان عدم الانحياز في جانب, ثم مجموعة بلدان ال77 في جانب مواز, وإلي ذلك النشاط الدءوب الذي كان يجري في صفوف الحركتين لمساندة حركات التحرر الوطنية ودعم التقارب السياسي والاقتصادي بين شعوب المجموعتين. وإذا عدنا للتاريخ القريب فلن نجد اختلافا كبيرا بين التجارب السياسية لبلدان ولشعوب الأمريكتين الوسطي والجنوبية, وبين التجارب التاريخية لبلدان ولشعوب المنطقة العربية, فبقدر ما عانينا, عانوا هم, وبقدر ما قهرنا قهروا هم, بل يمكن القول إن معاناتهم كانت أكبر, وأن القهر الذي عانوا منه كان أكثر قسوة من القهر الذي مورس علينا من المستعمر القديم, والآخر الجديد, فالاستعمار هو الاستعمار وإن تغير العلم الذي يرفعه أودرجة القهر التي يمارسها. أبسط الحقائق التي يمكن أن تذكر في هذا الشأن هي أنه منذ أكتوبر عام1492, وهو الشهر الذي نزل فيه كريستوفر كولومبس من علي سفينته لتطأ قدماه أرض كوبا, تغيرت الحياة تماما علي أرض الأمريكتين, الوسطي والجنوبية, أبيدت غالبية الشعوب الأصلية بثقافاتها وثرائها الإنساني الخاص, زحف الأوروبيون خاصة, الإسبان والبرتغاليين علي هذا العالم الجديد, ومعهم وعلي سفنهم, حملوا العبيد الأفارقة ليزرعوا الأرض ويحولوا الزراعة لمصلحة الاحتياجات الأوروبية, وليمارسوا عملية نهب منظمة لخيراتها الدفينة. وكانت شعوب الامريكتين كما كنا, ساحة للصراع بين الدول الاستعمارية الكبري, هنا في بلداننا, دار الصراع بين فرنسا والمملكة المتحدة والعثمانيين ثم دخل الألمان والايطاليون. وهناك دار الصراع بين إسبانيا والبرتغال وفرنسا ثم مجموعة الولاياتالأمريكية الثلاث عشرة التي أعلنت استقلالها عن بريطانيا عام1778 ثم ثبتت هذا الاستقلال عام1781 في معركة يورك تاون وهو التكوين الذي كان نواة نشأة الولاياتالمتحدةالأمريكية الحالية بولاياتها الخمسين, ولكن يستمر عام1817 كعام يسجل التحول الكبير في تاريخ العلاقات الأمريكية الأمريكية علي أنه عام صدور مبدأ منروو, وهو المبدأ الذي فرض من جانب واحد السيطرة الكاملة للولايات المتحدةالأمريكية علي بلدان الأمريكتين الجنوبية والوسطي بحجة حمايتها من أي تدخل أوروبي, بمعني استبدال استعماري باستعماري آخر. منذ ذلك التاريخ نظم الاقتصاد السلعي, الزراعي والصناعي, في بلدان القارتين اللاتينيتين ليخدم اقتصاديات المركز في الولاياتالمتحدة, فنمت المزارع الاستغلالية الكبري, اللاتيفونديا أو النموذج الإقطاعي اللاتيني, علي أساس تمويل الصناعات الغذائية في الشمال, واندفعت الاستثمارات الشمالية في الصناعة والتعدين والخدمات, وتم السيطرة علي سدة الحكم في كل بلد أمريكي لاتيني إما بالانقلابات العسكرية, أو بوصول الموالين للشمال إلي سدة الحكم, وتم القضاء علي كل التحركات التي سعت إلي التحرر السياسي أو الاقتصادي بدءا من حركة سيمون بوليفار إلي تحركات صغار القساوسة الكاثوليك من أجل الدفاع عن حقوق صغار الفلاحين, وهي الحركة التي عرفت طوال فترة ثمانينيات العقد الفائت بحركة لاهوت التحرير, وعانت الشعوب الأمريكية اللاتينية من الاستغلال, ومن القهر السياسي بكل درجاته, وقدمت تضحيات كبيرة إلا أنها استمرت شعوبا مليئة بالحيوية السياسية والثقافية التي صاغتها حالة التنوع الديني والاثني والسياسي, شعوب ترقص وتغني وتعمل وتنشط سياسيا وتحب الحياة وتكره القهر والاستغلال وتصلي وتتصارع سياسيا من أجل تقدم أوطانها. وقد اقتربنا كثيرا, كشعوب عربية, من هذه الشعوب البعيدة عنا جغرافيا في ستينيات العقد الماضي وشكلنا معها ومع بلدان إفريقيا وآسيوية أخري مجموعة ال77 التي كانت تنتمي إلي مجموعة البلدان النامية في الأساس, وكان أحد أهداف تشكيل هذه المجموعة هو التقارب المباشر, الاقتصادي والثقافي, بيننا, كشعوب وكبلدان, بحيث لا يكون هذا التعاون من خلال طرف ثالث أو أطراف ثالثة لها مصالح خفية خاصة, ولم يكن الطريق مستقيما سهلا معبدا, وإنما اعترضته الاختلافات والتباينات, وكان شيئا طبيعا, ولكن كان المسعي إلي الهدف الجماعي هو المرشد إلي تناول هذه الاختلافات سياسيا. أما كنساء, فقد زاد تقاربنا معها في اللقاءات والمؤتمرات النسائية التي نظمتها الأممالمتحدة وخصصتها لدراسة أحوال النساء, وسبل التقدم بها طوال سنوات عقد المرأة 1985/1976وما بعدها من سنوات امتدت فيها وعقدت مؤتمرات ولقاءات نسائية شعبية أخري, وتعلمنا من نساء هذه البلدان الكثير... الكثير. كنا في المنتديات الشعبية التي تقيمها الأممالمتحدة إبان عقد المرأة, في تواز مع المؤتمرات الرسمية الحكومية, نلتقي ونتعاون مع نساء أمريكيات لاتينيات شديدات الوعي بأوضاع بلدانهن وبلدان المناطق الأخري, وكن مناصرات قويات لأهم قضيتين مطروحتين علي الساحة السياسة حينذاك, قضية التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا ثم القضية الفلسطينية. لذا كانت تلك الخطوة التي أقدمت عليها كل من الارجنتين والبرازيل تجاه الاعتراف بدولة فلسطين كوطن حر مستقل في حدود عام 1967 من الخطوات التي أخذتني بعيدا من ناحية الزمان والظروف السياسية المتغيرة عندما كنا نحاول اختراق حواجز صنعتها مصالح استعمارية لنصل إلي شعوب وبلدان تشاركنا حب الحياة الحرة, والتقدم والتطور, كنا في ذلك الزمان, نعرف أن تغليب مصالحنا المشتركة كشعوب نامية لابد أن يسمو علي الاختلافات بيننا, لأنه في صالحنا جميعا, ثم تأتي خطوتا كل من الارجنتين والبرازيل اليوم لتنبهنا إلي أهمية أن نعيد بناء الجسور مع بلدان وشعوب العالم النامي, وإلي ضرورة أن تأخذ هذه العودة في البناء أولوية في سياستنا الخارجية والداخلية علي السواء, سواء كان ذلك علي المستوي الشعبي أو الرسمي. المزيد من مقالات أمينة شفيق