قبل خمسة وثمانين عاما ماذا كان علي تركيا أن تفعله وهي الناهضة توا علي انقاض الامبراطورية العثمانية, مدشنة حقبة مغايرة في عمر الاناضول, حيال رفاه شعبها والانطلاق به إلي آفاق رحبة بعيدة عن العوز وتدني الأوضاع المعيشية. ورغم أن ورثة رجل أوروبا المريض قد أخذوا عهدا علي أنفسهم بأن يسلكوا نهجا مغايرا يزيل آثار الطابع الثيوقراطي الذي طبع البلاد والعباد, إلا أنهم وجدوا أمامهم تحديات داخلية وإقليمية ودولية تنوء بها الجبال, فالارض تموج بعرقيات وإثنيات شتي ومعها ترهل في كافة أدوات الانتاج, وتفشي إقطاعيات وسط طغيان كبار الملاك, وفي الجوار ناحية الشرق كان البلاشفة يصولون ويجولون بعد أن استتب لهم الأمر علي يد فلاديمير إليتش لينين واضعين نصب أعينهم اطروحات كارل ماركس ورفيق دربه فرديريك أنجلس. وهكذا سادت الاشتراكية الأممية. لكن اتاتورك المشارك في التخوم نظر بريبة لتلك التطورات فقد كان يمقت الشيوعية فجل إهتمامه أنصب في لحاق بلاده بركب الغرب الاوروبي والأمريكي علي السواء, إلا أنه في ذات الوقت لم يشأ أن يترك العنان لإقتصاد حر من شانه أن يعمق التناقضات الهائلة في اركان المجتمع ويزيد من فقر الفقراء, وحتي لا ينساق هؤلاء إلي أصحاب الدعوات الهدامة, انتهج نسقا تنمويا إحتكاريا أخذ من رأسمالية الدولة عنوانا عريضا ووحيدا لتصبح الحكومة مرادفا للدولة الحانية علي أبنائها والدليل علي ذلك أنها ستفعل لهم كل شئ, ملبية الإحتياجات الاساسية بأسعار مدعمة, غير أن هذا ظل براقا علي نطاق الشعارات أما الواقع فكان يئن, الهوة تزداد إتساعا بين الذين يمكلون وهم قلة مقابل قطاعات واسعة باتت نهما لنزعات يسارية متطرفة زاد من قسوتها الانقلابات العسكرية الثلاثة في عمر الجمهورية. إلي أن جاء تورجوت اوزال الموصوف من قبل مواطنيه ب' العبقرية الاقتصادية وكادت شهرته تتجاوز أسطورة مؤسس الكمالية, وبعد أن أسس حزب الوطن الأم في مستهل الثمانينيات بأيديولوجية تراوح بين الوسط واليمين راح يكشف عن ليبرالية لا تفصل الديمقراطية عن التنمية الاقتصادية, وبكاريزما طاغية فاجأ الجميع ببرامج طموحة وضعت تركيا إقتصاديا علي سلم النهضة وشيئا فشيئا تحررت البلاد من السطوة الاحتكارية للدولة وإن أبقي علي قطاع عام يدار بعقلية إقتصادية في مقابل تعظيم القطاع الخاص الذي ترك له مجالات حيايتة بكاملها يديرها وفق شروط المنافسة التي تفصل بين الصالح والطالح. وفي سابقة جسورة قرر اوزال بيع الطرق وتشجيع الاستثمار فيها وكانت النتيجة تدشين آلاف الكيلو مترات وبالتوازي كانت ركائز البنية الاساسية تغطي معظم ارجاء الاناضول الأمر الذي شجع رؤوس الاموال الأجنبية علي أن تتوافد. الأكثر إثارة هو أن تركيا وهي تسلك عالم الاقتصاد الليبرالي وجدت امامها إنفصاليين يريدون وأد وحدة البلاد, ولأن الاتراك متشبثون بالكيان الواحد أندلعت حرب ضروس استنزفت بلايين الدولارات لكن عجلة الانتاج لم تتوقف, والتفسير بسيط وهو أن مقاومة منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية كان خيار شعب كامل قدم الشهداء وفي الوقت ذاته لم يتقاعس المجتمع عن اللحاق بركب التقدم. ثم تأتي طفرة كبيرة مع حكومة الراحل بولنت إجيفيت نهاية القرن الماضي وبداية الالفية الجديدة, ومع نخبة من التنكوقراط علي راسهم كمال درويش القادم المتسلح بخبرة عريضة أكتسبها من البنك الدولي يتقرر تعويم العملة الوطنية بعملية جراحية أستاصلت عوائق الاقتصاد, صحيح وجد المواطنون الليرة وقد انخفضت بنسبة70% بين ليلة وضحاها, إلا أنهم سرعان ماتكيفوا علي الوضع الجديد وبدورها شهدت الصادرات ومعظمها سلع مصنعة نموا كبيرا يتزامن معها معدلات غير مسبوقة في اعداد السياح واعتبارا من نوفمبر عام2002 يعتلي العدالة والتنمية مقاليد السلطة وكم كان محظوظا فالخطوات والسياسات التي أرستها الحكومة الائتلافية بزعامة إجيفيت بدأت تؤتي ثمارها, وها هو الاقتصاد التركي يحتل المرتبة السادسة علي مستوي أوروبا أما علي المستوي الكوني فتقدم خطوة ليصبح ضمن أكبر ستة عشر اقتصادا في العالم.