كانت أسماء بنت أبي بكر نعم الزوجة الصالحة للزبير بين العوام, بالرغم من أنه شاب فقير ليس له خادم ينهض بخدمته, أو مال يوسع به علي عياله غير فرس اقتناها. عندما أتيح لها الهجرة إلي المدينة فرارا بدينها إلي الله ورسوله, لم يمنعها الحمل من تحمل مشاق الرحلة الطويلة, فما أن بلغت قباء فيوضعت وليدها فكبر المسلمون وهللوا لأنه أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة, وأتت به إلي المصطفي صلي الله عليه وسلم فأخذ شيئا من ريقه وجعله في فمه, ثم دعا له وسماه عبدالله, ومع تقدم سن الزبير ظل في طبعه حدة لم يستطع التخلص منها, مما جعل أسماء تشتكي لوالدها فقال لها الصديق: يابنية اصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح مات عنها فلم تتزوج بعده جمع بينهما في الجنة, فصبرت وطال صبرهاوعاشت مع ابنها عبدالله في مكة, وكان بمنأي عن أحداث الفتنة الكبري في المدينة. ويخلد التاريخ مواقف عظيمة, فعندما تولي الخلافة عبدالله بن الزبير عام64 ه ونقل الخلافة إلي مكةالمكرمة تربص له الحجاج الثقفي ودارت بينهما معارك طاحنة أظهر فيها عبدالله ضروب البطولة, غير أن أنصاره انفضوا من حوله رويدا رويدا, واحتمي هو ومن معه في الكعبة المشرفة, وقبل مصرعه بساعات قال لأمه: لقد خذلني الناس وانحازوا علي رهبة من الحجاج, حتي أولادي وأهلي وأرسل بني أمية يفاوضونني علي أن يعطوني ما شئت من الدنيا إذا ألقيت السلاح وبايعت عبدالملك بن مروان, فقالت: الشأن شأنك وأنت أعلم بنفسك, فإن كنت تعتقد أنك علي حق وتدعو إلي الحق فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك, وإن كنت أردت الدنيا فلبئس العبد أنت أهلكت نفسك ورجالك, قال: ولكني مقتول اليوم لا محالة, قالت: خير من أن تسلم نفسك للحجاج ويلعب برأسك غلمان بني أمية, قال: لن أخاف القتل, ولكن أخاف أن يمثلوا بي, قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء, فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ, قال: بوركت من أم, لن أهن ولن أضعف, ها أنا ذا ماض إلي ما تحبين, فإذا قتلت فلا تحزني وسلمي أمرك لله, قالت: الحمد لله الذي جعلك علي ما يحب وأحب, ومضي يواصل القتال, وينظر إلي أمه قائلا: لا تفتري عن الدعاء لي يا أمي, نظرت أمه إلي السماء وقالت: اللهم إني قد سلمت لأمرك, ورضيت بما قضيت له, فأثبني عليه ثواب الصابرين, ولم تمر ساعات حتي فاضت روحه في ميدان الجهاد, وبعد أيام لحقت به الأم عن مائة عام في كامل قواها, ووعي رشيد.