من يظن أن العالم العربي وحده هو الذي مر بأحداث صعبة تجري فيها عمليات للتفكيك والتجزئة فإنه لا يعرف كثيرا مما يجري في العالم حيث لا توجد تفرقة بين دولة عظمي مثل الاتحاد السوفيتي سابقا, ولا دولة صغري مثل تشيكوسلوفاكيا. وفي كل العالم فإن تماسك الدول وبقاءها وتقدمها ورفعتها هي مهمة أهلها في المقام الأول, أما الأطماع والمخططات فهي جزء مهم من طبيعة البشر والعلاقات الدولية. وحينما جاءتني المكالمة التليفونية من السفير الصربي في القاهرة عما إذا كان ممكنا وضع زيارة الأهرام في برنامج رئيس الوزراء ميركو سفيتكوفيتش أثناء زيارته الرسمية للقاهرة, رحبت فورا بضيف الدولة. ولم يكن ذلك راجعا فقط إلي أنه بات واحدا من تقاليد الزائرين لمصر أن يلتقوا بالصحفيين والكتاب في الأهرام مادام الوقت متاحا, وإنما لأن لقاء رئيس الوزراء الصربي كان مهما للغاية لأسباب عدة: أولها أن جمهورية الصرب هي آخر البقايا من دولة عزيزة علي جيلنا هي يوغوسلافيا التي كونت مع مصر والهند ما عرف بحركة عدم الانحياز, وكان ملتصقا بالأذهان تلك الصورة التاريخية التي جمعت ناصر ونهرو وتيتو, ومعها تواريخ عدة للمؤازرة والتأييد في أوقات صعبة. وثانيها أن القصة اليوغسلافية البراقة سرعان ما حل محلها صورة سوداء حالكة خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي عندما جرت حروب كرواتيا والبوسنة وكوسوفو حينما انقسم المصريون ما بين مؤازرة مسلمين أشقاء, ومساندة دولة صديقة وقت تفكيكها وتقسيمها كما يحدث في دول عربية قريبة. وثالثها أنه وبعد أن سكتت المدافع وهبطت الطائرات القاذفة إلي مرابضها سقطت يوغوسلافيا, أو ما بقي منها في صربيا, من الذاكرة المصرية اللهم من علاقات اقتصادية وإستراتيجية محدودة. ورابعها أنه خلال فترة الغياب هذه كانت صربيا تلعق جراحها وفي الوقت نفسه تخط لنفسها طريقا مماثلا لباقي الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة والذي يقوم علي قدمين: التحول نحو الديمقراطية الاقتصادية والسياسية, واللحاق بالغرب ممثلا في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي; أي ببساطة اللحاق بالغرب في نظمه الداخلية والدفاعية. وبشكل ما ولسبب شخصي أكاديمي وسياسي كنت مهتما بالتجربة الصربية حيث زرت بلغراد في أعقاب سقوط نظام سلوبودان ميلوسيفيتش, وكانت يوغوسلافيا قد تفككت تماما ولم يبق إلا جمهورية الجبل الأسود التي كانت علي وشك الانفصال هي الأخري. ورغم أن الدولة كانت قد مرت توا بحروب بدت طاحنة من بعيد إلا أنه فيما عدا القليل لم تكن العاصمة تعرف ذلك التدمير الذي عرفته بلدان أخري. بعد ذلك شاءت الظروف أن أزور لوبلانا عاصمة سلوفانيا حيث وجدتها عضوا في الاتحاد الأوروبي وتستخدم عملته اليورو ومتوسط دخل الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي27 ألف دولار سنويا. أما كرواتيا التي زرتها بعد ذلك في مدينة دوبرفنيك الساحرة فوجدتها علي ذات الطريق ومتوسط دخل الفرد فيها18 ألف دولار. جاء رئيس الوزراء علي أية حال إلي الأهرام حيث جري حديث صغير في مكتبي ومن بعده التقي بالزملاء من الأهرام ومن بعدها أجريت معه لقاء تلفزيونيا سوف يذاع قريبا. وكان الرجل مؤهلا تماما لعرض التجربة الصربية سواء بسبب مؤهلاته التعليمية التي حصل فيها علي درجتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد, أو بسبب مواقعه الوظيفية التي شغلها, فقد عمل في معهد الاقتصاد بصربيا لمدة ست سنوات, تلاها العمل كباحث ومستشار في شركةmecon لمدة سبع سنوات. وفي عقد الثمانينيات, عمل كمستشار للبنك الدولي فيما يتعلق بعدد من المشروعات في باكستان والهند وتركيا, وعمل أيضا في البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. وخلال الفترة(1998-2001) عمل مستشارا للقضايا الاقتصادية في معهد التعدين, وبحلول العام2005 أصبح المستشار الخاص لشركة استشاراتCEOintercom. وقد نشر الكثير من الدراسات البحثية والمقالات العلمية عن الخصخصة والتحول إلي اقتصاد السوق في صربيا والخارج. وبعد الإطاحة بسلوبودان ميلوسيفيتش, عمل ميركو سفيتكوفيتش في يناير2001 نائبا لوزير الاقتصاد والخصخصة في الحكومة الصربية, وخلال عامي2003 و2004 كان مديرا لوكالة الخصخصة, حتي صار وزيرا للمالية في صربيا خلال الفترة الممتدة من15 مايو2007 وحتي7 يوليو2008 في ائتلاف حكومة رئيس الوزراء فويسلاف كوستونيتشا عندما أصبح رئيسا للوزراء. الرجل هكذا كان مؤهلا تماما للحديث عن التجربة الصربية في طورها الأخير خلال السنوات العشر الماضية والتي كانت بدايتها نهاية الحلم الصربي ببقاء دولة يوغوسلافيا موحدة تحت القيادة الصربية باعتبار إقليم الصرب هو الأكبر مساحة والأكثر سكانا. ولكن ما جري في خطوات مرعبة طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي حول الحلم إلي كابوس طويل. فقد قامت جمهورية صربيا بشكلها الراهن في ظروف بالغة الصعوبة, حيث تعد صربيا واحدة من جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق, الذي انهار بعد عقد من الحروب والصراعات(1990-1999), وظهرت ست جمهوريات هي صربيا وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود. وبدأ تفكيك الفيدرالية اليوغسلافية بانفصال سلوفينيا وكرواتيا في27 يونيو1991, تبعه انفصال مقدونيا في8 سبتمبر1991, وبعدهما خاضت كل من كرواتيا والبوسنة والهرسك حربا ضروسا ضد السلطة المركزية في بلجراد حتي عام1995 لنيل الاستقلال وبعد تدخل قوات حلف شمال الأطلسي انسحبت القوات الصربية من إقليم كوسوفو عام1999, ثم انفصلت جمهورية الجبل الأسود عن صربيا في3 يونيو2006, وأخيرا انفصل إقليم كوسوفو عن صربيا في17 فبراير.2008 وخلال هذه الفترة كانت سمعة الدولة ملطخة بالسواد بسبب الجرائم المختلفة التي جرت أثناء حروب الانفصال أو الاستقلال- سمها ما شئت- فقد بلغت الاتهامات الموجهة من المحكمة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا للرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش66 اتهاما, واستغرقت محاكمته466 يوما, وقدمت خلالها5 ألاف مستند قانوني وأدلي295 شخصا بشهاداتهم فيها, وتمثلت الاتهامات في الإبادة الجماعية المتعلقة بمذبحة سربرنيتشا في البوسنة وطرد أكثر من268 ألف شخص من غير الصرب, وجرائم ضد الإنسانية تتعلق بما حدث في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو منها الترحيل القسري لنحو800 ألف ألباني ووفاة900 منهم علي الأقل بينهم نساء وأطفال. ما جري في يوغوسلافيا السابقة لم يكن مختلفا كثيرا عما يجري في دول عربية قريبة, وربما تتغير الأسماء والأشخاص والأعلام ولكن الحقيقة الباقية هي أن روابط ووشائج الوحدة لم تكن أقوي ولا أفضل من متاعب ومصاعب الانفصال. ولكن حملت التجربة الصربية, وفقا لما جاء في حديث رئيس الوزراء الصربي- ثلاثة ملامح أساسية: أولها الاعتراف بما جري, وكان رئيس الوزراء الصربي فخورا أن بلاده قدمت من خلال إعلان برلماني اعتذارا عن الجرائم التي تم ارتكابها إزاء الجمهوريات الأخري خلال فترات تاريخية سابقة. وربما لم يكن هناك مناص من هذا الاعتذار حتي يمكن فتح صفحة جديدة مع الجمهوريات الشقيقة في الماضي وهي الواقعة في الجوار الجغرافي حيث الاشتباك السكاني والاقتصادي لا هروب منه. وثانيها أن الانفصال قد يكون طريقا إلي الوحدة بشكل آخر عندما يلحق الجميع بالاتحاد الأوروبي. وبعد أن أصبح ميركو سفيتكوفيتش رئيسا للوزراء في7 يوليو2008, وحلف اليمين في الجمعية الوطنية( البرلمان الصربي) أوضح في كلمته أن أحد التحركات الأولي لحكومته ستكون بلورة اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي. وبالفعل تقدمت صربيا بطلب في ديسمبر2009 للحصول علي العضوية ولكن دول الاتحاد لم تصل بعد إلي مرحلة اتخاذ قرار حاسم بمنح صربيا وضع دولة مرشحة لعضوية الاتحاد, وهو مرهون بالتطور في جولات الحوار مع إقليم كوسوفا منذ إعلان استقلاله عن صربيا في فبراير2008 وهو الذي تعتبره صربيا جزءا منها. وثالثها أنه لكي تتمكن صربيا من اللحاق بالغرب عامة والاتحاد الأوروبي خاصة فإنها لابد أن تفعل ما فعلته الدول الشيوعية وتركيا من قبل وهو أن تلتزم بالمعايير الأوروبية المطلوبة في الديمقراطية السياسية والاقتصادية ومن ثم جرت تحولات عميقة في الدولة الصربية جعلتها تقترب من هذه الحقيقة. وأصبح النظام السياسي الصربي جمهوريا برلمانيا فعالا, حيث يتم انتخاب رئيس الجمهورية وهو منصب شرفي مباشرة من المواطنين عن طريق الاقتراع العام. ومنذ11 يوليو2004 يشغل منصب رئيس الدولة بوريس تاديتش, ويظل في الحكم لفترة تبلغ خمس سنوات, ويمكن أن يترشح في الانتخابات لفترة رئاسية أخري, وكان آخر انتخابات رئاسية شهدتها صربيا في3 فبراير2008 حينما فاز الرئيس الحالي علي منافسه بنسبة أصوات بلغت51.2% من إجمالي الأصوات. أما رئيس الحكومة فهو الذي يمتلك السلطات التنفيذية, ويتم ترشيحه من قبل الرئيس الصربي بالتشاور مع الجمعية الوطنية, وتعد الحكومة منتخبة إذا تمت الموافقة من خلال تصويت أغلبية مجموع عدد النواب. وقد حدث نفس التحول في المجال الاقتصادي, حيث قطعت صربيا أشواطا في اتجاه الليبرالية الاقتصادية والخصخصة, والتي تشمل شركات الاتصالات وبعض الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم. وهكذا أخذت صربيا نفس الطريق الذي قطعته الجمهوريات اليوغوسلافية الأخري, وربما كانت أبطأ قليلا, ولا يزال أمامها بعض المشكلات التاريخية, ولكن رئيس الوزراء الصربي لم يلفظ مرة واحدة بكلمة المؤامرة وإنما كان حريصا علي تبيان أنه رغم كل ما جري فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وصل إلي ستة آلاف دولار, وأن البلد مفتوح للاستثمارات الأجنبية, ورغم التاريخ المر فإن أكثرها أمريكي, وأوروبي بالطبع. المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد