قد يقول قائل, وهل في السياسة والانتخابات أخلاق؟! وأجيب نعم: علي الأقل الحد الأدني من احترام الذات والتعامل بشرف وصدق مع الآخرين حتي لو كانوا خصوما سياسيين. أعترف أن للوزير والنائب البرلماني والسياسي المخضرم, الأستاذ كمال الشاذلي, مكانة خاصة في قلبي وأقسم أنني كعادتي وطوال عمري الصحفي الذي تجاوز ربع قرن, احتفظت بمساحة معقولة بيني وبين مصادري, سواء أكانت شخصيات في موقع المسئولية أو شخصيات عامة, وظلت علاقتي المهنية مع الجميع تعتمد علي ما تتيحه هذه المصادر لي من معلومات أو تصريحات أو حوارات, فاصلا ما بين الشخصي والعام, ولعل هذا ما جعل علاقتي بالجميع تقوم علي الاحترام والثقة والود والندية. عرفت الوزير كمال الشاذلي كنائب في البرلمان وكقيادي في الحزب الوطني وكوزير منذ أوائل الثمانينيات, وتابعته بحكم المهنة عن قرب وعن بعد, فعرفت ووجدت فيه جدية السياسي مع شهامة أولاد البلد, وتعجبت رغم فهمه السياسي وخبراته من تصريحاته المقتضبة ورفضه الدائم للظهور الإعلامي المتكرر أو في غير أوانه, لم تتغير علاقتي به كصحفي وهو يتولي موقع الأمين العام المساعد وأمين التنظيم في الحزب الوطني أو وزيرا لمجلسي الشعب والشوري وحتي اختياره رئيسا للمجالس القومية المتخصصة, مع احتفاظه بمقعده البرلماني كنائب منتخب عن دائرة الباجور, ورغم موقعه ودوره داخل أروقة المطبخ السياسي الداخلي, كان الشاذلي ولايزال يفضل لقب البرلماني ويعتز به, ويفخر بأنه أقدم برلماني منتخب في العالم, تحمل الشاذلي الكثير من الضغوط والحملات الإعلامية والأقاويل الكاذبة, ذات الطابع السياسي وبعضها أخذت طابعا شخصيا استهدفته كقيادة حزبية, فلم يهتم بها كثيرا وكان رده الوحيد دائما هو العمل وأداء دوره الوطني, وعندما خرج من التشكيل الوزاري, سألته ماذا يعني ذلك؟ فأجاب بثقة وهدوء, لاشيء كنت كمال الشاذلي قبل الوزارة وسأظل كمال الشاذلي بعدها وسأخدم البلد في أي موقع: يختارني فيه الرئيس مبارك, وأنا جندي في خدمة هذا الوطن. في موقعه الجديد ظل الشاذلي يعمل بنفس الاخلاص وبروح المقاتل كرئيس للمجالس القومية المتخصصة التي أخرجت عشرات الدراسات الاستراتيجية في كل المجالات الحيوية, وظل عضوا في المكتب السياسي للحزب, والأهم أنه ظل نائبا منتخبا باجماع غير مسبوق من أبناء دائرته. في ظاهرة برلمانية لم تحدث من قبل, حيث احتفظ بتمثيله الدائرة طوال64 عاما متصلة. تعرض الشاذلي لأزمة صحية وعاد بعد أن من الله عليه بالشفاء لمواصلة دوره البرلماني, وقرر بإصرار الترشح مرة أخري لخدمة أبناء الباجور, ورأي الجميع صورته التي بدت عليها آثار الأزمة الصحية. وقال البعض, إنه آن الأوان لأن يترجل الفارس ويستريح وابتسمت, لأنني أعرفه جيدا, ففي داخل شخصيته روح المقاتل, الصلب, العنيد, الذي يرفض الاستسلام, وخرج عشرات الآلاف من أبناء الباجور ومدن وقري المنوفية كلها لاستقباله وإعلان تأييدهم له لاستكمال دوره النيابي وكانت هذه الحشود استفتاء علي الشاذلي وتاريخه وعطائه. والذين يعرفون علاقة الشاذلي بأهله لم يدهشهم ماحدث وأنا منهم, ففي زياراتي ولقاءاتي المتعددة به في مكتبه وهو وزير أو وهو يشغل موقعه الحزبي, المهم كان باب مكتب الشاذلي مفتوحا للجميع وفي أي وقت, وكان ملجأ وملاذا للبسطاء, كان الشاذلي يلاحظ متابعتي لطريقة استقباله لفلاح بسيط يشكو وزارة الزراعة, أو شاب يطلب فرصة عمل أو سيدة لاتقدر علي مصاريف العيال في غياب رجلها, ودون أن أسأله يقرأ ما أريد ويجيب قائلا: هؤلاء أهلي وناسي, وهذا دور النائب والسياسي وهذا أيضا مدخلي للعمل العام, فأنا هنا لخدمة الجميع, لذلك لم يكن غريبا أن يخرج أهالي المنوفية وفي مقدمتهم أبناء الباجور في مظاهرة حب تلقائي لواحد منهم, وتأكدت ثقة أبناء الباجور والمنوفية في ابنهم كمال الشاذلي وانتمائه اليهم وإلي بلده, بعد الدور الذي قام به طوال عقود طويلة لتحسين أحوال محافظته والخدمات التي قدمها أو وقف وراء تنفيذها. ويبدو أن هذا الإجماع والحب الباجوري لكمال الشاذلي والإصرار علي أن يظل نائبا للدائرة, هو الذي جعل أحدهم يطلق شائعة, لا أجد لها وصفا إلا أنها تفتقد لكل القيم الاخلاقية, انتشرت الشائعة ووصلت إلي القاهرة وعلمت بها, فشعرت بالانزعاج وتحركات داخلي قرون الاستشعار الصحفية, وحاولت التأكد منها, فاتصلت أولا بأخي وزميلي في المهنة معتز الشاذلي, فلم يرد, حاولت الاتصال بهاتف مدير مكتب الشاذلي, فلم يرد أيضا, فقلت لنفسي إذن عليك الاتصال بالصديق والأخ الكبير المهندس سامي عمارة محافظ المنوفية الذي من المؤكد وبحكم موقعه سيكون لديه الخبر اليقين, ولكنه لم يجب, فقمت بالاتصال بمدير مكتب المحافظ علي هاتفه المحمول, حتي أجاب السيد مدير مكتب المحافظ, ودار بيننا الحديث القصير التالي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, فقلت وعليكم السلام.. أستاذ يوسف وهذا هو اسمه أنا فلان, ممكن أكلم سيادة الوزير المحافظ؟ أجاب: هو مش موجود طيب وحياة أبوك يا أستاذ يوسف تطمني, فيه خبر عايز أتاكد منه فيه كلام إن شاء الله يطلع مش حقيقي, أن الأستاذ كمال الشاذلي توفي. هل الكلام ده صحيح؟ فأجابني السيد يوسف مدير مكتب السيد الوزير المحافظ بحدة, وما يطلعش حقيقي ليه يا أستاذ وما يحصلش ليه يابيه, ما كلنا حنموت!!. أصابني الرد بصدمة, وتمالكت نفسي, وقلت طبعا, طبعا كلنا ح نموت, بس إن شاء الله يكون خير, وربنا يارب يطول في عمر الجميع, أنا بس بتأكد من هذه الشائعة, فأجابني بنفس الحدة, لأ يا سيدي ما حصلش, فأغلقت هاتفي متحسرا.. علي ما أصاب بعض المصريين من قسوة في القلب, وعنف في التعامل اللفظي وافتقاد للتعامل الإنساني. نعم, كل نفس ذائقة الموت, هكذا نؤمن, ولكن حسب ما تعلمناه وتربينا عليه, دائما ما نقول: بعد الشر, وإن شاء الله خير, وربما ما يورينا وحش, وبعد عمر طويل, ودون أن أدري ربطت ما بين صراخ وعويل الداعية الخليجي علي تليفون الأخ يوسف وبين قسوته, وربطت أيضا بين أخلاقه وسلوكه الإنساني وأخلاق وسلوك هذا المرشح الذي لم يجد ما يهزم به منافسه إلا بشائعة وفاته وتعجبت من أخلاق الانتخابات, وتعجبت أكثر من سلوك مدير مكتب السيد الوزير المحافظ. خرج كمال الشاذلي عن صمته ببيان, ولجأ إلي القانون للرد علي صاحب الشائعة التي تجافي كل القيم. أما ما قاله السيد مدير المكتب فلن يخضع لأي قانون, ولكنه يدق أجراس الخطر لينبهنا أن سلوك البعض أصبح مفتقدا للياقة والذوق والخلق الطيب, وما فعله الوزير الشاذلي كان سلوكا حضاريا, لهذا أقول له سلامتك.. فحب الناس وأخلاقهم الطيبة, لا تباع ولا تشتري, ودمت لنا أيها النائب الفارس والمقاتل. المزيد من مقالات مجدي الدقاق