من بين المعالم الطبيعية التي تركت أثرها علي المجتمع المصري علي مر العصور, ربما كان فيضان النيل أوثقها صلة وأكثرها تداخلا معه, سواء أجاء هذا الفيضان وافيا كافيا يحمل معه الخير والخصب ريا وطميا, أم كان ضئيلا ضعيفا يضيع معه الأمل في إشراقة عام زراعي جديد, بل قد تضيع معه إشراقة الحياة ذاتها في كثير من الأحيان. وهو أمر يدركه كل من يتذكر أن القاعدة الاقتصادية التي قامت عليها حضارة مصر عبر التاريخ هي قاعدة زراعية بالدرجة الأولي, وقد عبر المصريون منذ بداية تاريخهم وحتي وقت قريب عن انطباعاتهم إزاء هذا الوضع بأكثر من طريقة, ومن بين ما كانوا يقدمون في هذا السياق قدر غير قليل من الأداء الفردي والجماعي, غناء وإنشادا وترنيما وترتيلا, في مناسبة الاحتفاء والاحتفال بالحدث المذكور, وأشير هنا إلي مقاطع من هذا الأداء ترجع إلي العصر الفرعوني المبكر, أعرض مقتطفات منها في هذه السطور: حمدا للنيل الذي يأتي ليغذي مصر, ولفيضانه الذي يسقي الأماكن التي لايطالها الماء, إنه هو الذي ينتج الشعير ويجمع القمح, وإذا ارتفع منسوبه فإن البلاد يعمها الفرح وينتشر الابتهاج بين الناس ويغمر الضحك الجميع وتمتلئ المخازن وتتسع مستودعات الحبوب, انه يقدم النماء للأشجار حسب رغبة كل منا, إن السفن تبني استجابة لقوة ندائه. إن صغاركم وأطفالكم يتصايحون( لدي قدوم فيضانه) في سعادة جمة, والرجال يقدمون له التحية ملكا لايغير وعوده أو عهوده عندما يتقدم في حضور مصر العليا ومصر السفلي. منك يتدفق الماء فتشرب الحقول, ومن جودك تعطي القوة للجميع وتمنح البعض الثراء وتمنح الآخرين الحب, لاتميز أحدا علي أحد. علي أن الأمور لم تكن ابتهاجا دائما, وماء دافقا دائما, وفيضانا يروي الحقول دائما, فقد مرت بمصر مناسبات( وإن كانت نادرة) لم ينتظم فيها عطاء النهر, وعرفنا من النصوص أنه كان يتراجع سنة أو حتي بضع سنوات من حين, إلي حين وأحد الأمثلة علي ذلك هو النص الذي تم اكتشافه في جزيرة سهيل بمنطقة أسوان عام0981 م. وتعود اللوحة التي تحتوي علي النص إلي عهد الملك بطلميوس العاشر( القرن الأول ق.م) ولكن مانقش عليها يشكل نسخة من أصل يرجع إلي عهد الملك زوسر( القرن72 ق.م) ويطالعنا النص الذي عاصر غياب الفيضان فيقول: كنت أجلس علي عرشي في حداد. وكان أولئك الذين في القصر غارقين في الحزن. وكان قلبي يعاني من الأسي لأن حعبي( الأسم المصري لفيضان النيل) تأخر في مجيئه سبع سنوات بأكملها. كانت الحبوب شحيحة. وكان كل نوع من أنواع الطعام نادرا. وكان كل شخص يسرق حتي مايملكه أخوه. وكان الأطفال لايكفون عن البكاء جوعا, وكان الشباب يتساقطون من الإعياء, أما المسنون فقد كانت قلوبهم تغوص في الحزن, وقد جلسوا علي الأرض وقربوا( في ضياع) بين صدورهم وسيقانهم وأحاطوا بأذرعهم. ولم ينج من العوز حتي رجال الحاشية. بينما أغلقت المعابد أبوابها وغطي الغبار كل محراب فيها كان الناس يمرون بمحنه. ونعرف من النص المذكور أن الملك اهتم جديا بما كان ينبغي عمله في هذا الظرف. وباستشارة وزيره إمحتب الذي كان, إلي جانب موقعه السياسي, أحد كبار العلماء في مصر, تم التوصل إلي أن خير علاج للموقف هو التعرف علي منطقة منابع النيل بكل ما كانت تحتوي عليه من شواطئ واتجاهات ومقاييس, بل وتصورات دينية محلية. وهكذا ذهب العالم الكبير إلي إحدي دور الحياة( مراكز الأبحاث آنذاك) للإحاطة بكل ما كان يمكن أن يصل إليه من التفاصيل العلمية المتعلقة بإنجاز المهمة التي كلف بها وهي مهمة يذكر لنا الملك مدي حرصه علي التعامل معها. ولم تكن الجدية التي مارسها أولو الأمر في مصر بخصوص منابع النيل مقصورة علي العصر القديم فحسب, بل كان من الطبيعي في ضوء الأهمية الحياتية لهذه القضية أن تشغل نظراءهم في عصور أخري كذلك. وفي هذا السياق نجد المسئولين في مصر يلحقون بالعصر الحديث فيقومون في غضون القرن التاسع عشر بمحاولة لاكتشاف منابع نهر النيل امتدت علي مرحلتين. وقد قام بالمرحلة الأولي من المحاولة محمد علي, الوالي علي مصر آنذاك, فقد أرسل في أثناء حكمه ثلاث حملات إلي السودان( بين9381 و2481) كان من بين أهدافها اكتشاف المنابع المذكورة. وقد وصلت هذه الحملات إلي منطقة بحر الغزال في جنوب السودان وهي المنطقة التي تبدأ بعدها مباشرة منطقة البحيرات, حيث المنابع الجنوبية للنيل, ولكن حال دون الوصول إليها موت الوالي قيد الحديث. أما المرحلة الثانية من المحاولة فقد تمت في عهد حفيده الخديو إسماعيل الذي أرسل إلي السودان حملتين وصلتا إلي منطقة البحيرات واحتلتا بحيرتين تشكلان منبعين من منابع النيل. ولا أتحدث هنا عن الجهود التي بذلها أولو الأمر في مصر والمنشآت التي أقاموها في مجال القناطر والسدود ومايدخل في عدادها, فهذه رغم أهميتها الفائقة ورغم توافر القدرة علي التحكم فيها من داخل البلاد, إلا أنها ذات صفة تنظيمية أو تخزينية أساسا, وإنما أتحدث عن الاتفاقات والمشروعات والمنشآت المشتركة التي يمكن أن تربط بيننا وبين الدول الإفريقية التي تدخل منابع النيل ضمن أراضيها, ومن ثم تملك المركز الأقوي في أي تعامل معنا يخص ماء النهر وبعد, فربما كنا نستطيع في وقت سابق أن نحصل علي كل مانحتاج إليه من ماء النيل بالحق التاريخي أو بأي حق آخر, ولكن الأمور اتخذت الآن مجريات أخري, ليس أقلها أن القرن الذي نعيش بداياته مرشح لدي المتخصصين لأن يكون قرن الحرب للحصول علي الماء وأتساءل: بحق أو بغير حق؟!.