السودان الآن في مفرق الطريق بين نعيم ممكن وجحيم محتمل, وأقدم لحديثي بتأكيد أن الاستفتاء لتقرير المصير التزام حتمي ولكنه يقع بين حالين: استفتاء حر ونزيه يجري في مناخ سياسي صحي تكون فيه القضايا الخلافية معالجة بالتراضي فيحقق بذلك نتيجة تحظي بشرعية وطنية, وإقليمية, ودولية, فينهض السودان بدولته الموحدة علي أسس جديدة أو دولتيه التوءمين المتفق علي شروط وصالهما قبل الاستفتاء, والحالة الثانية هي استفتاء لا حر ولا نزيه مختلف علي نتائجه ما يلقي ظلالا علي نقاط الخلاف الكثيرة فتلتهب محدثة براكين قتالية داخل الشمال, وداخل الجنوب, وفيما بين الشمال والجنوب, تشد إليها جميع التناقضات الموجودة في القارة, والبحر الأحمر, والشرق الأوسط, وفيما وراء البحار. أقدم لكم حديثي عبر عشر نقاط: الأولي: منذ أن نفذ البريطانيون في السودان سياسة الفصل العنصري باسم سياسة الجنوب في عام1922 م, وعزمت الحكومات الوطنية نقض تلك السياسة تراكم في السودان استقطاب حاد لا ما بين شماله وجنوبه. الثانية: التعبير الجنوبي عن مخاوف من الشمال اتخذ صورا مختلفة وترددت فكرة تقرير المصير علي ألسنة ساسة جنوبيين علي فترات, ولكن الفكرة لم تحظ بموقف جنوبي إجماعي إلا في أكتوبر1993 م كردة فعل مباشرة لقيام نظام انقلابي سوداني التزم بأيديولوجية إسلامو عروبية, فدعا السناتور السابق هاري جونستون جميع الفصائل الجنوبية في واشنطن واتفقوا علي أن السودان اتجه اتجاها لا مكان لنا فيه, فنحن لسنا مسلمين ولا عربا, ونطالب بتقرير المصير وما بين ذلك التاريخ وعبر محطات مختلفة انتهت الي توقيع اتفاقية سلام نيفاشا في يناير2005م, اعتمدت تقرير المصير للجنوب بعد فترة انتقالية طولها ست سنوات تحكم البلاد أثناءها حكومة وحدة وطنية تتبع سياسات تجعل الوحدة جاذبة, لكي يصوت الجنوبيون للوحدة في يناير1102 م. الثالثة: وفي مايو5002 م نشرنا كتابا بعنوان: اتفاقية السلام5002 م ومشروع الدستور أبريل5002 في الميزان قلنا فيه إن الاتفاقية أعلنت جعل الوحدة جاذبة وضرورة التحول الديمقراطي وسمت نفسها اتفاقية سلام شامل رحبنا بما حققت الاتفاقية من وقف إطلاق النار وتقاسم للسلطة والثروة بين طرفي الاتفاقية, ووضع الالتزام بحقوق الإنسان وحرياته كما في المواثيق الدولية ولكننا انتقدنا عيوب الاتفاقية لا سيما: إن الاتفاقية تطلعت لجعل الوحدة جاذبة ولكنها في الواقع جعلت الانفصال جاذبا بموجب برتوكولين: بروتوكول ميشاكوس قسم البلاد علي أساس ديني: شمال للشريعة وجنوب للعلمانية, مما يخلق استقطابا, والأفضل كما قلنا إعلان مدنية الدولة واستثناء غير المسلمين من الأحكام ذات المحتوي الديني وبروتوكول تقاسم الثروة الذي خصص للجنوب05% من إيرادات بتروله مما يجعل للجنوبي حافزا للانفصال ليحتفظ بكل إيرادات نفط الجنوب, والأفضل كما قلنا أن يخصص للجنوب نصيبه بالتمييز القاصد من الثروة القومية. وطعنا في مشروعية تسمية الاتفاقية اتفاقية السلام الشامل في وقت يحتدم فيه الاقتتال في شرق البلاد وغربها لاسيما دارفور التي كانت في عام اتفاقية السلام محط أنظار العالم كله, هذه التسمية كان لها أثر سالب لأنها إذ حققت السلام الشمالي/ الجنوبي قفلت الباب أمام تسويات سلام أخري وحتي يومنا هذا التمسك بسقوف اتفاقية نيفاشا صار عائقا أمام اتفاقيات السلام اللاحقة. فترة الحكم الانتقالي زادت الطين بلة, وعزز الاستقطاب الشمالي الجنوبي أمران آخران هما: التباين الأيديولوجي بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وطرحهما للتوجه الحضاري والسودان الجديد الأول إسلامو عروبي والثاني علمانو إفريقيا ومع أنهما بموجب ما اتفقا عليه في اتفاقية السلام تنازلا في الحقيقية عن تلك التطلعات, والعامل الثاني هو التعامل الانتقائي معهما من قبل ضامني الاتفاقية, لاسيما التعامل الأمريكي الذي والي الحركة الشعبية بعين الرضا والمؤتمر الوطني بعين السخط, وهو أي المؤتمر الوطني لم يقصر في استخدام ألفاظ شتائمية تنابذية كرتية كرنكية مما ساهم في مزيد من الاستقطاب. الرابعة: في هذا المناخ الشبيه بالحرب الباردة بين الشريكين أجريت انتخابات أبريل2010 م وبموجبها سيطر المؤتمر الوطني علي الشمال والحركة الشعبية علي الجنوب بنسب تفوق90% لكل في منطقته, مما جعل كلا منهما يتهم الآخر بالتزوير, كنا حريصين علي إجراء انتخابات حرة نزيهة تحقق التداول السلمي وتكمل التحول الديمقراطي, ولكن الانتخابات عكس ذلك كانت علي ألسنة الشرق أوسطية, وهي انتخابات لتمكين الحكام لا للتناوب علي السلطة, وأهم نتيجة سالبة للانتخابات أنها ألقت بظلالها علي الاستفتاء باعتبار أن من يسيطر علي جهة سوف يسيطر علي التوصيت فيها. الخامسة: بعد تأخير لأكثر من عام كونت مفوضية الاستفتاء قانون الاستفتاء الذي يحكم المفوضية يفترض الثقة والتعاون بين شريكي الحكم وهو معدوم, ويفترض أن تكون المفوضية مستقلة ولكنها منقسمة علي نفسها علي أساس جهوي, وإجراءات الاستفتاء مقيدة بمواقيت يستحيل تحقيقها, والميزانية المطلوبة لعملها لم تدفع وهناك خلاف حول كيفية تصويت ما بين1 2 مليون جنوبي في الشمال, وتقرر أن يصوت نحو مليوني جنوبي في المهجر عبر إدارة مستقلة عن سفارات السودان لم تؤسس بعد. قانون الاستفتاء حدد مسائل ما بعد الاستفتاء ليتفاوض طرفا الاتفاقية حولها ما قبل الاستفتاء وهي: الجنسية, العملة, الخدمة العامة, وضع الوحدات المشتركة المدمجة والأمن الوطني والمخابرات, الاتفاقيات والمعاهدات الدولية, الأصول والديون, حقول النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره, العقود والبيئة في حقول النفط, المياه, الملكية وغيرها هذه المسائل تأخر بحثها كثيرا وقد اجتمع الحزبان للاتفاق عليها في القاهرة وفي واشنطن وفي المكلة بأثيوبيا وفي الخرطوم, وكل ذلك عبر وسطاء ولكن الأمر لم يحسم بعد, بل بعد كل محاولة يبدو الاتفاق بعيدا. السادسة: أهم من مسائل ما بعد الاستفتاء مسائل جنوبية داخلية يري باحثان عالمان نشرا تقريرا هذا العام بعنوان جنوب السودان في تناقض مع نفسه هما ماريك شوميروس وتيم ألن أوضحا بدراسة حقلية وجود مشاكل حدودية داخل الجنوب ما لم تحسم سوف تشعل حروبا داخلية, كثيرون يركزون علي المشاكل الشمالية الجنوبية ولكن في دراسة حقلية أجراها جوك مادوت جوك وشارون هتشتنسون في نهاية القرن الماضي أوضحا أنه منذ الثمانينات الي تاريخ الدراسة فإن ضحايا الاقتتال الجنوبي أكبر عددا من ضحايا الاقتتال الشمالي الجنوبي. السابعة: نصت اتفاقية السلام علي ضرورة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب بعد ستة أشهر من إبرام اتفاقية السلام أي في عام2005 م وكان هذا الإجراء مهما لإجراء الاستفتاء, ولكن صار الأمر الآن محل خلاف هذه المسألة أوكلت لمفوضية فنية لترسيم الحدود المفوضية فرغت من الجانب الفني ولكن ما بقي قضايا سياسية كل منها قابل لإشعال الحرب إذا لم يعالج بطريقة صحيحة, السيدان عمر البشير وسلفا كير ما برحا يؤكدان عزمهما علي عدم استئناف الحرب وأنا أصدقهما لأسباب موضوعية. فمعلوم أن الجيوش التي تحكم تشغلها مصالح الحكم عن الحرب ولا أحد يريد أن يتهم بشن الحرب, ولكن هناك أطرافا ثالثة وحلفاء هم الذين يمكن أن يشتبكوا ويجروا الآخرين. وهنالك نقاط قابلة للالتهاب هي: أ تبعية الجبلين ما بين الرنك والنيل الأبيض وهو خلاف بين دينكا أبيلانق وقبائل رعوية: سليم الصبحة الأحامدة نزي رفاعة. ب جبل مقينص محل خلاف بين أعالي النيل وجنوب كردفان. ج كاكا التجارية محل خلاف بين أعالي النيل وجنوب كردفان. د بحر العرب محل خلاف بين شمال بحر الغزال وجنوب دارفور. ه كفياكنجي وحفرة النحاس محل خلاف بين غرب بحر الغزال وجنوب دارفور. و الخلاف حول أبيي ما لم يستطع حسمه التحكيم الدولي. ز واختلاف حول هجليج أشمالية أم جنوبية وهي منطقة نفطية. ح واختلاف حول مفهوم المشورة الشعبية لجبال النوبة. ط واختلاف حول المشورة الشعبية لجنوب النيل الأزرق. هذه الاختلافات تدعم وجهات النظر المختلفة فيها قبائل تدافع عن مصالحها وقد وقعت فيها نزاعات وسالت دماء, وحتي الآن أمورها معلقة والأطراف المعنية تستعد لأية مواجهات. المطلوب بإلحاح آلية مجدية للتعامل مع هذه الخلافات حتي لا تلقي بظلالها علي الاستفتاء. الثامنة: كذلك المطلوب قبل الاستفتاء الاتفاق علي شروط تتجاوز اتفاقية السلام الحالية لوحدة تقوم علي درجة أعلي من الندية والتوازن وعلي خطة بديلة في حالة الانفصال أي وحدة ندية أو انفصال واصل. التاسعة: القضية ليست متي يجري الاستفتاء, ولكن ضرورة أن يكون حرا نزيها وأن يتفق علي آلية مجدية لتناول النقاط الخلافية لذلك اقترحنا: إسناد إدارة الاستفتاء لجهة محايدة, دول معينة تحت مظلة الأممالمتحدة لأن أية جهة سودانية سوف يطعن في نزاهتها. وتكوين مفوضية حكماء لدراسة وحل النقاط الخلافية في زمن كاف دون تقيد بمواعيد الاستفتاء, الذي يجري بأسرع ما يمكن بإدارة دولية. ولكن للأسف حتي الآن الأسرة الدولية بقيادة الولاياتالمتحدة غير مهتمة بنوع الاستفتاء بل بشكله وهذا سيناريو كارثي هذا ما أوضحناه لمجلس الأمن الذي وفد للخرطوم الشهر الماضي ولممثليهم في العواصم المختلفة إنهم يتحدثون فقط عن إجراء الاستفتاء دون ضوابط نزاهته ولا يعيرون النقاط الخلافية الملتهبة اهتماما. العاشرة والأخيرة: الاستفتاء المضروب أيا كانت نتائجه سوف يسمم العلاقات بين الشمال والجنوب, ويجعل السودان جبل مغناطيس يجذب إليه جميع تناقضات المنطقة, نزاعات القرن الإفريقي وحوض النيل وغرب إفريقيا والشرق الأوسط, بينما استفتاء حر ونزيه وتعامل راشد مع النقاط الخلافية يمكن السودان الموحد أو التوأم من دور بناء في التعامل مع كل التناقضات المذكورة.