يخطئ من يتصور أن السعادة يمكن أن تتحقق في حياة الفرد بواسطة حبوب أو أقراص يتعاطاها بصورة أو بأخري, فهذا التصور فيه الكثير من الخيال والوهم, وهو اختزال غير منطقي لمعني السعادة ومفهوم مطلق لكيفية تحقيقها, ذلك لأن الأقراص الدوائية المضادة للإكتئاب والتي كانت تسمي سابقا مفرحات النفوس ماهي إلا مواد كيميائية تعمل علي ضبط الحالة المزاجية المرضية للمصابين بالاكتئاب النفسي عن طريق تعديل التوازن لبعض الموصلات العصبية في مراكز معينة بالمخ, وتصحيح مسارها بين هذه المراكز وذلك لفترة زمنية تمتد الي سنة أو أكثر حتي تمام الشفاء من المرض. وهنا نقول إن الاكتئاب النفسي مرض مؤقت كأي مرض عضوي يصيب الجسم مثل القلب أو المعدة أو الكبد.. الخ, والاكتئاب ليس بالحالة المضادة للسعادة, ويمكن أن يكون المصاب بهذا المرض غير سعيد وعلي العكس, حيث نجد من يتمتع بقدر من الرضا والشعور بالسعادة أن يصاب بمرض الاكتئاب ولو لفترة زمنية قصيرة سرعان ماتختفي وتزول مع العلاج النفسي والدوائي. إن السعادة حالة نسبية من الشعور بالرضا والاستمتاع بالأمان وتجنب كل ألوان الفزع والخوف والبعد عن شوائب التفكير في الأحزان وطرد روح التشاؤم والتطلع الي كل ماهو جميل مشرق من أمل وعمل. ولما كان الانسان قد خلق لكي يسعي, والسعي في الحياة فيه مشقة وعناء فإن علي قدر السعي وتحمل المشقة يكون الثواب من الخالق سبحانه وتعالي, وأن ليس للإنسان إلا ماسعي وأن سعيه سوف يري, ثم يجزاه الجزاء الأوفي, وأن الي ربك المنتهي, يا أيها الإنسان إنك كادح الي ربك كدحا فملاقيه صدق الله العظيم. إذن الأصل في الحياة هو السعي والكدح والمعاناة, لقد خلقنا الانسان في كبد. ولكن كيف تتحقق السعادة مع الشقاء والكفاح والمشقة, هذا السؤال يمكن الاجابة عليه بكلمة واحدة وهي الرضا والرضا لمن يرضي ولن يرضي أي إنسان من البشر إلا من بداخله إيمان قوي مطلق بقدر وقدرة الله عز وجل, ومن هذه المعادلة يمكن القول إن مفتاح السعادة النسبية هو الإيمان والتسليم بقدر الله وقدرته دون اعتراض. إذن السعادة لا تباع ولا تشتري ولا تقتصر علي من يملك وتبتعد كل البعد عمن لا يملك, ولا تهبط من السماء في ضربة حظ أو صفقة بيع وشراء, ولا تحتاج الي سعي دءوب أو جري الوحوش, وإنما هي نابعة من داخل الإنسان تتوهج وتتألق بوقود الإيمان وتستمد طاقتها بالرضا بما قسم الله به والتسليم بإرادته. وما أحوجنا في زمن التكالب علي ماديات الحياة المعاصرة الي أن نستشعر السعادة بمفهومها العقائدي والانساني حتي لا تطحننا طواحين الطمع والجشع وتعصرنا أعاصير اللهث وراء ماهو زائل. والمطلوب هو إعادة منظومة التوازن بين الماديات والمعنويات وإعلاء قيمة العقيدة والتسليم بالقدر, وعدم الاعتداء علي ممتلكات الغير أو السعي وراء المكاسب المادية دون وجه حق, إن قيمة الحياة لا تتحقق بمقاييس المكسب والخسارة بقدر ماتتحقق بالسلام النفسي والسعادة الحقيقية. د. يسري عبدالمحسن أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة