لم نعد الآن نري بوضوح الفوارق التي احتوي وميز بها آباؤنا وآباؤهم برغم قلة ما كانوا يعرفون بين ما هو نافع وما هو ضار للآدمي كآدمي أي وما يصلح وما لا يصلح لبقاء الإنسان علي هذه الأرض آمنا هو ونسله من العوز والمطاردة والتشرد والاقتتال. إننا نعرف أكثر منهم بكثير في كل ناحية من نواحي المعرفة, لكنها معرفة مسطحة سطحية لاتتفاوت في النفاذ إلي أعماق الإنسان, ولا في مقدار هذا النفاذ, وهو ما يجعل اكتسابها سهلا, ونسيانها أكثر سهولة ويجعل تناولها من جهة الأهمية والالتفات ودرجة الأهمية متقاربا يتوه بعضه في بعض كزروع الحقول الفسيحة المتجاورة, يشملها تشابه غامض مصدره قرب القاع والكثرة والجوار مع الالتصاق. فنحن الآن غير قادرين علي التعلق الشديد بما معنا وما عندنا كما كان آباؤنا وآباؤهم من قبلهم, ومن ثم فنحن أقل منهم اقتناعا وتحمسا للبقاء. وقبضتنا علي الحياة أضعف, وحرصنا علي تخليد أنفسنا في نسلنا علي نحو أقوي وأفضل ليس شديدا غامرا كما كان لدي الآباء والأجداد ولهذا مخاطره علي تطور النوع البشري بل علي بقائه! ومع اتساع نظرتنا إلي العالم الخارجي اتساعا لم يسبق له مثيل في أي زمن سابق ضاقت نظرتنا إلي داخلنا وصاحب ذلك قدر قليل أو كثير من عدم المبالاة بمصائرنا واستصغار لأهميتنا في الكون الواسع الكبير الذي يزداد سعة كلما زدنا معرفة به يوما بعد يوم. وصار مركز الثقل في القيم والأفضليات خارج الآدمي علي نحو غالب مكتسح في كل مجتمع خارج نفس الآدمي بعيدا عن أعماقه, لتتداوله باستمرار موجات التغيير والتبديل التي تتزايد تعقيدا وعنفا في المجتمعات المتقدمة بغير توقف التي ينتقل تأثيرها بسرعة إلي المجتمعات الأخري نتيجة اتساع وضخامة وكفاية وسائل الإعلام والانتقال الحديثة ويكاد الآدمي الآن أن يكون منقطع الصلة من النواحي الفكرية والخلقية والعملية والمعيشية عن ماضيه الطويل, هذا الماضي الذي تكون ببطء وجرت فيه التغييرات متباعدة مكانا وزمانا, فلم تفقد فيه حياة الآدمي تلك الأسس المألوفة المستقرة خلال العصور والدهور. نعم تكاد الان أن تكون جذور حياة الآدمي بما هو آدمي أن تكون قد تعرت واقتلعت علي نحو أو آخر وفارقت ثباتها القديم العميق, وصارت عرضة كأي شيء آخر لأن يتناولها أي شيء بالتقليب والفضول والنقد والتشكك والتوقف والاستهجان, وضياع ذلك الايمان العام الذي كان يحيطها ويحميها, هذا الايمان الذي كان يضمن لها تخللها في يسر إلي كل أبعاد حياة الإنسان الواعية وغير الواعية نعم ضاع الايمان العام بتلك الجذور القديمة وصار الدفاع عنها والدعوة إليها والتمسك بها مشوبا بشوائب التكلف والتمثيل والافتعال أو مصاحبا لأمارة أو أكثر من امارات الردة النفسية أو التخلف العقلي هيأتها ظروف الحياة الاجتماعية غير العادية في قسوتها واضطرابها أواختلالها بالنسبة لأفواج هائلة من الناس لم يعودوا قادرين علي الاحساس بالتناقض الصارخ بين كيفية إعلان حماسهم لتلك الجذوز ونوع حياتهم التي يحيونها متمسكين بها كل التمسك كغيرهم من آدميي هذا العصر. فهل يمكن للتكلف أو التمثيل أو الافتعال أو تلك الردة النفسية أو التخلف هل يمكن لشيء من ذلك أن يعيد حياة الادمي إلي جذورها القديمة أو يعيد جذورها إلي أعماقها التي كانت لها إلي استقرارها وثباتها وتخللها لسائر مناحي حياتنا؟! هذا السؤال لايكاد يجسر أحد علي أن يطرحه الآن علي نفسه بهذه الصراحة مخافة أن يكذب عليها ومع ذلك لايكف الناس عن الدعوة لذلك في اصرارهم علي الدعوة لتلك الجذور بحالتها ووضعها وما يثقل كاهلها من الاعباء التي لم يعد لها موجب مع تغير الأزمنة والحضارات تغيرا كليا! ربما كان وراء هذا أمر أكبر وأخطر وهو تدهور روح الإنسان الفرد كفرد وضعف اصاب فيه ملكة الشعور بالاستقلال والحرية الفطرية في أن يري هو ويراقب هو, ويتبع هو ويفكر هو ويختار هو. لقد اعتدنا أن نري ونراقب ونتتبع ونفكر ونختار ما تختاره لنا الجريدة التي نقرأها أو الإذاعة التي نسمعها, أو التليفزيون الذي نشاهده, أو الناقد الذي نصغي إليه, أو الشيخ الذي نعتقد فيه أو المتزعم الذي نصادفه, أو المؤلف الذي نقرأ له اعتدنا علي هذا الاتباع ونحن بربع عقل وربع اهتمام, إننا نعاني تفشي تساوينا فيما نسميه التعليم, وتشابهنا في النمطية في كل شيء في إنتاج عقولنا وقيمنا إنتاجا واسعا نوعيا كمنتجات المصانع والحقول والدواجن والماشية. خاليا من فرص الفردية والاصالة التي لا توجد إلا مع قوة الفردية إننا كآدميين ولدنا أعدادا متشابهة في أنواعها نحمل في يقظتنا ونومنا هذه المشابهة النوعية, ولذلك لا يحس أحدنا احساسا قويا بأن له( أنا) خاصة به هو لا يشاركه فيها أحد, ولا يسمح لأحد بهذه المشاركة منها يستقي مصادر قوته هو كما يحمل فيها اسباب ضعفه هو, ولذلك نشعر في أعماقنا أن كثرتنا ليس لها قيمة وأن فرديتنا ليس لها قيمة كذلك وأننا محكومون مقيدون ملزمون مرتبطون بحبال متينة لا آخر لها ولا أول, وليس لنا منها خلاص حقيقي, وأن ما نسميه المال والسلطة والشهرة والمكانة لا يخاطب داخلنا بأي لغة مقنعة ولا يوقظ لدينا أي ايمان جاد بأنفسنا أو بخالقنا تبارك وتعالي, ان نجاحنا أو فشلنا عاما كان أو خاصا هو ضوضاء من خارجنا, تظل خارجنا إلي أن نفارق الحياة لنعود أصفارا كأن لم نكن كتبتها علي الماء أصابع الحياة التي تمحو باستمرار ما كتبت بكتابة جديدة تضمن استمرار تلك الضوضاء التي تشغل الاحياء بخارجهم عن داخلهم بغير انقطاع! ويجب ألا ننسي أن المطبعة والقوي البخارية والكهربائية والذرية والاشعات والموجات والقطار والسيارة والصحافة والإذاعة والتليفزيون والديمقراطية والاشتراكية, وسيطرة السلطات بشكل أو آخر فضلا عن السياسة والإدارة علي الاقتصاد والتعليم والتخطيط والتنمية كل أولئك قد أسهم بنصيب في حضارتنا الآن, لكنه ايضا قد أسهم دون أن يشعر الناس في اضعاف وجود الآدمي كآدمي منفرد بشخصيته وشخصه أضعف شعوره بمسئوليته عن حياته, ومصيره, كما أضعف وجدانه وكرامته الداخلية في عين نفسه وهذا الضعف مستمر ويستمر, وبه صار مئات الملايين من البشر الذين يملأون الأرض, صاروا غرباء في الواقع بالنسبة لأنفسهم لا يكاد يراقب أحد منهم داخله لدقيقة واحدة خلال العام بل الأعوام لانه لا ينظر قط إلا إلي خارجه وذلك بعيون إما زائغة لما يشتهيه آخرون أو خائفة مما يخافه غيره كاذبا كان ذلك أو صادقا. نعم حرص القوم في البلاد المتحضرة علي إطالة أمد الدراسات والتعمق في الابحاث العلمية والاكثار من معامل البحث والمختبرات وحشد من مضمون أعمارهم فيها مع الانفاق الهائل علي المعدات والأدوات والآلات الخاصة بها لكي يستفيد اصحاب المشاريع الاقتصادية مما يمكنها الانتفاع به من تلك الابحاث العلمية بعد تقدير صلاحيته عمليا بمعرفة خبراء التكنولوجيا والهندسة الصناعية فلم تتأثر غربة الناس العاديين بالنسبة لأنفسهم بتقدم الأبحاث العلمية اللهم إلا من جهة السلع والوسائل سواء تعلقت بحاجات الحياة اليومية أو النقل والاتصال, أو بالإعلام أو التعليم أو الترفيه, والناس العاديون يستعملون تلك السلع والوسائل دون أن يعرفوا أسرار كفاياتها, فهم لا يودون أن يفارقوا حالة الاغتراب التي تزداد كثافة وعمقا داخلهم يوما بعد يوم لأنهم تعودوا عليها ولم يجدوا من يعودهم باصرار علي ان يلتفت كل فرد إلي داخله ويحافظ علي حريته ونقاوة داخله واستقلاله. إن الأغلبية الغالبة من أناسي الأرض الآن عشب قد يكون أخضر لكنه عرضة للجفاف في أي وقت بانقطاع الماء اللازم, وعندئذ يكون عرضة للحريق بأقل شعلة وعرضة لان تمتد ناره لتأكل اليابس والأخضر في كل مكان. ولسنا ننسي فيما استعرضناه الفرق بين العامة وهو الكثرة المحدودة من حيث الدخل وفرص النمو الذهني وانصراف كثافتهم إلي بذل جل أوقات يقظتهم في كسب الوقت أو نحو ذلك, وبين الخاصة وهم دائما الاقلية الأكثر رواجا والافسح فرصة للتفكير والتعلم والتدبر وتنمية الفطنة والعناية بالفهم والتبصر وتقليب الأمور وضبط النفس والسلوك, لكن هذه الاقلية الضروري وجودها لحياة الجماعات الآدمية ولمساعدتها علي التطور والتقدم قد فقدت وتفقد خصائصها باستمرار بانتشار ضعف المقومات الداخلة في الآدمي كفرد مسئول قادر علي الشعور بالمسئولية, واستعداده لتحملها, وهذا فيما يبدو هو الإشكال الأكبر الذي نواجهه الآن.
[email protected] www.ragaiattia.com المزيد من مقالات رجائى عطية