كثيرا ما أختلف مع أبنائي حول قراءة تلك الكتب, التي تتناول مشكلات مصر بأسلوب ساخر.. وأري أن هذا الأسلوب التهكمي يسهم في تشكيل وعي الشباب, ويتدخل في تحديد انتماءاته.. وأن سلبية أفكار هذا الجيل لم تأت من فراغ, بل من هذه النوعية من الكتابات.. حتي الآن ورغم قراءاتي المتعددة, لم استطع أن أقرأ هذه الكتب, أو أن أعقد صداقات معها.. ربما لأنني أنتمي لجيل أري أنه تربي في مناخ شديد الخصوصية.. جيل لا ينتمي أبناؤه إلي الثورة, ولا إلي حرب أكتوبر, ولا إلي اتفاقية السلام.. هذا الجيل تفتح وعية السياسي وهو في بداية المرحلة الابتدائية عندما خرجنا جميعا في مظاهرة, نهتف لزملائنا في مدرسة بحر البقر الذين استشهدوا بطيران العدو, وهم في فصولهم,ونعاهدهم بأننا سوف نأخذ بثأرهم, ولن نخاف.. هكذا كنا نهتف, ونحن صغار لم نتجاوز الثامنة من عمرنا بعد, ومنذ ذلك التاريخ بتنا نتابع ما يقوم به أبطالنا البواسل علي الجبهة من أعمال فدائية رائعة, كنا ونحن أطفال نتابع حرب الاستنزاف; فلك أن تتخيل كيف تم تشكيل وعي تلك الفئة من الصغار..! ولقد استيقظنا يوميا لنري أن البلد يتشح بالسواد, ولم نصدق ما قالوه لنا بأن الزعيم قد مات..في هذه السن لم نكن نستوعب أن يموت القائد هكذا, دون أن يخرج العدو الذي دمر مدرستنا. وأظن أن هذه كانت صدمتنا الأولي.. وفي السنوات اللاحقة كنا نتتبع حوارات الكبار عن صعوبة الحرب, واستحالة العبور, وثورات الطلاب.. ولم يكن أحد ينتبه لوجودنا; فنحن كنا في نظرهم مجرد أطفال صغار.. لم يدرك أحد أننا جيل مدرسة بحر البقر.. نحن نختلف.. نحن أكثر نضجا, ووعيا; حتي إنني كثيرا ما كنت أصاب بالإحباط, وأكاد أبكي,ولم أكن أدرك في وقتها سر تلك المشاعر.. ولذلك عندما خرج البيان الأول لحرب السادس من أكتوبر1973, اجتاحتني مشاعر لا يمكن أن توصف.. كانت أحاسيسي أكبر من إدراك هؤلاء الأطفال الذين يواكبونني في نفس المرحلة العمرية; فمازلت حتي الآن أنتفض كلما سمعت كلمة جاءنا البيان التالي.. فالكلمة كانت تعني احتباس الأنفاس, وسرعة ضربات القلب.. لحظات كالسحر; ربما تشبه في وقتنا هذا ترقب الشباب للحظات الأخيرة من المباراة الفاصلة التي سوف تحقق المجد لمصر كما يزعمون, مع الفارق.. فعندما كان المذيع ينطق بكلمة نجحت قواتنا, أو اجتاحت قواتنا, وقبل أن نستمع إلي بقية البيان.. كانت الصيحات ترتفع, ويعلو التكبير, وتزرف الدموع.. وعلي الرغم من أن هذه اللحظات يتذكرها الكثيرون, إلا أنها كانت بالتأكيد مختلفة بالنسبة لنا نحن أطفال هذا الجيل.. وقد ظللنا عشرين يوما أفئدتنا معلقة بتلك الكلمات, وعندما توقفت الحرب لم نكن نفهم الأسباب, ولكننا كنا سعداء لأن شهداءنا قد استراحت أرواحهم.. هكذا عشنا كل تلك اللحظات الرائعة.. وتعرض هذا الجيل لصدمة كانت الأعظم: عندما قالوا لنا, فلنبدأ بالسلام.. لم تكن قضية السلام أمرا عاديا بالنسبة لنا, واعتقد أنه من هنا ضاعت خطي ذلك الجيل.. ماذا تنتظرون من جيل عاش كل هذا الحشد من الأحداث, والصراعات..؟!.. كنا أصغر من أن نفهم, وأكبر من نرضي, وننسي.. كانت مشاعرنا, ووعينا قد تشكل وانتهي الأمر.. ولكننا لم نمثل عبئا علي أحد.. فلقد كنا, ومازلنا في نظر المجتمع صغارا لم يلتفت إلينا المجتمع كثيرا, ولم يضعنا المحللون في الاعتبار; لأننا لسنا جيلا فاصلا; فنحن لم نعش الحرب كالناضجين, ومع ذلك لم نستطع أن نتقبل هذا السلام.. وعندها..ربما ضاع الطريق من البعض, ولكننا أبدا لم نفقد إيماننا بوطننا.. فقد ظلت في الأعماق تلك المشاعر التي تجعلنا نبكي عند سماع أغنية للوطن لمجرد سفرنا لبضعة أيام, وذلك الإيمان الذي لم يجعلنا يوميا ننجرف تجاه أي تيار لا يبغي صالح الوطن.. وعندما تتأمل اليوم خريطة مصر جيدا سوف تجدنا, وتعرفنا..فمازلنانتعامل بحماس مع كل ما يسند الينا.. وسوف ترانا ونحن نقاوم الفساد قدر استطاعتنا, قد لا نلجأ إلي الصدام لكن أبدا لا نستسلم. هذا الجيل مصر بالنسبة له ليست أمه, لأن الأم قد تتخلي.. وقد تتحول إلي زوجة أب مصر بالنسبة له هي الوطن الذي يعيش داخله.. هي كيانه ووجدانه.. مصر الذي كان يتغني بها لم تكن بلد عادل إمام, وحسن شحاتة, والخطيب.. بل كان يتغني لمصربلد الأحرار, والثوار, والعروبة.. جيل كانت أغنيته اليومية كل صباح, أحلف بسماها.. وبترابها.. جيل لا يستطيع أن ينظر إلي مصر من البلكونة فيجدها, وقد تاهت خطاها.. ولكنه جيل رغم كل الصدمات, والصعاب مازال يري أن هناك أملا طول مااناعايش فوق الدنيا.ص